}

غزّة امتحانٌ جديد للمثقّف التزامًا أو مهادنة

جورج كعدي جورج كعدي 7 ديسمبر 2023
آراء غزّة امتحانٌ جديد للمثقّف التزامًا أو مهادنة
(غزة، 24/10/2023، GettyImages)

يصدمنا موقف الكاتب المغربيّ الطاهر بن جلّون، مثلما يصدمنا بعده موقف الفيلسوف الألمانيّ يورغن هابرماس. مثقّف نفعيّ من مغربنا العربيّ، وآخر لا أخلاقيّ من الغرب الأوروبي. إنّهما نموذجان راهنان يستدعيان إعادة البحث في مسألة المثقّف التي نوقشت كثيرًا في زمني الأنوار والحداثة.

نال المثقّف اعترافًا حين التزم بقضايا إنسانيّة عالمية ووضع فكره وشهرته في خدمة الآخر، فالبحث عن الحقيقة هو ما ينبغي أن يوجّه المثقّف، فضلًا عن الالتزام والنزاهة الفكرية وحسّ العدالة والشعور الإنسانيّ والنضال ضدّ المظالم. ولو خان المثقّف هذه المبادئ والتزم الصمت وأبدى عدم اكتراث بما يحصل فإنّه يفقد حكمًا صفة المثقّف. تسقط هذه الصفة عنه أيضًا لو كال بمكيالين، على نحو ما فعل جان بول سارتر ماضيًا حين أيّد المشروع الصهيونيّ في فلسطين القائم على الاحتلال والإحلال والمجازر والتمييز العنصري، مدافعًا في زمن لاحق عن الثورة الجزائرية ضدّ المستعمر الفرنسيّ! موقفان متناقضان أفقدا أحد ألمع فلاسفة الحداثة صدقيّته ومكانته الفكريّة والإنسانيّة، هو من أعطى أحد مؤلفاته عنوان "الوجودية مذهب إنسانيّ"! والمأخذ عينه يمكن سوقه ضدّ ألبير كامو وميشيل فوكو وخورخي لويس بورخيس ممّن أيّدوا "إسرائيل" ودافعوا عنها على نحو مستهجن ومستغرب غير جليّ الأسباب والمبرّرات والدوافع!

لم يبقَ مقبولًا حيال تنامي المظالم وانتهاك الكرامة الإنسانية وارتكاب أفعال الإبادة الجماعيّة، على ما هو حاصل في غزة اليوم، أن يظلّ المثقف متربّعًا في برجه العاجيّ، غير مشتبك مع الواقع المرفوض إنسانيًّا، وغير مطلق صوته الاحتجاجيّ الواضح الصريح الحاسم، وغير مبادر إلى أيّ فعل ملموس وعمليّ، من أيّ نوع وضمن مستطاعه غير النظريّ، بغية مناصرة الحق قولًا وفعلًا، وإيصال الحقيقة كسبيل إلى رفع الظلم والموت والقتل. إنّه "المثقّف العضويّ"، في تعبير أنطونيو غرامشي، الذي يعيش هموم زمنه ويرتبط بقضايا أمته، وهو مختلف عن "المثقف التقليديّ" الذي يحيا في برجه العاجيّ، أو "مثقّف السلطة" وهو كاتب أو صحافي أو فنان انتهازيّ تابع.

يضع إدوارد سعيد برؤيته الفذّة وثقافته العميقة رسمًا للمثقّف بكونه أمينًا لمعايير الحق المتعلقة بالبؤس الإنساني والاضطهاد، ويرى أن لا شيء يشوّه هذه الأمانة أكثر من تبديل الآراء تبعًا للظروف، أو التزام الصمت الحذر. ويؤيّد سعيد تعريف جوليان بندا Benda للمثقّف بأنه يتحلّى بموهبة استثنائية وحسّ أخلاقيّ فذّ، فهو مع أقرانه ضمير البشريّة. والمثقّف الحقيقي غير منفصل عن الواقع، وغير منصرف الى الاهتمام النظري والمواضيع المبهمة، وغير مقيم في عزلة شديدة، بل تحرّكه مبادئ الحق والعدل النزيهة دفاعًا عن الضعيف. وقد رأى بندا أنّ المثقّفين، غير الحقيقيين، يتنازلون عن سلطتهم الأخلاقية لمصلحة "تنظيم العواطف الجماعية" كالروح الدينية والعدوان القومي والمشاعر الجماهريّة. في حين أنّ على المثقّف الحقيقيّ أن يعرّض نفسه للأخطار، وأن يكون شخصيّة جبارة. مع ذلك، يعود سعيد إلى تغليب نظرة غرامشي إلى المثقف كعامل في أي حقل مرتبط بإنتاج المعرفة أو بنشرها، وهذا ينطبق على زمننا الحديث مع بروز العدد الكبير من المهن الإعلاميّة الجديدة ووسائل التواصل الكثيرة المتاحة.

ينطق إدوارد سعيد بلسان حاله مثقّفًا: "إنّ المثقّف الذي يهمّ في النهاية هو ذاك المتمتع بالصفة التمثيلية، إنسان يمثّل بوضوح وجهة نظر ذات طبيعة ما، ويعبّر بجلاء لجمهوره عن تلك الأفكار التي يمثّلها، رغم كلّ أنواع العوائق. وحجّتي هي أنّ المثقّفين أفراد يملكون الاستعداد لممارسة فن التعبير عمّا يمثّلون، سواء كان ذلك قولًا، أو كتابةً، أو تعليمًا، أو ظهورًا على التلفزيون. هذا الاستعداد مهمّ إلى حدّ أنّ من الممكن تمييزه على رؤوس الأشهاد، وهو ينطوي على الالتزام والمجازفة، وعلى الجسارة وقابليّة الخطأ" (يشيد إدوارد سعيد، ويا للغرابة، بسارتر نموذجًا، كأنّي به غير مطّلع كما ينبغي على مواقفه المؤيّدة لإسرائيل!). وقد عانى سعيد كمثقّف مناضل في الغرب لقضية شعبه إذ يقول: "إنّ فلسطين قضيّة غير مجزية، فأنت لا تنال شيئًا مقابل التزامك بها سوى الازدراء والاضطهاد والنَبْذ. كم من الأصدقاء يتجنّبون الخوض في هذه المسألة! وكم من الزملاء لا يرغبون في سماع أيّ خطاب فلسطيني! وكم يصرف الليبراليون المتحمّسون وقتًا في الاهتمام بقضايا البوسنة والشيشان والصومال ورواندا وجنوب أفريقيا ونيكاراغوا وفيتنام والحقوق الإنسانية والمدنية في أي مكان على وجه البسيطة، ولكنّهم لا يفعلون شيئًا من ذلك حين يتعلق الأمر بفلسطين أو بالفلسطينيين؟".

تشومسكي مفكر نبيل، أخلاقيّ، شجاع، ثابت في مواقفه،  مدافع عن القضية الفلسطينية، له أيضًا نظرته الخاصة إلى دور المثقّف الذي يعدّه التزامًا أخلاقيًّا (Getty)


من ناحيته، ينظر المفكر العربيّ الدكتور عزمي بشارة إلى مثقّف العصر الحالي على أنّه "لم يعد في إمكانه أن ينطلق من العام إلى الخاص كالفلاسفة في عصور ماضية، إذ بات تطوّر المعرفة يتطلب الانطلاق من الخاص إلى العام، أي من معرفة موضوع بعمق إلى القدرة على تجاوز التخصصات والإحاطة بعدة مجالات إحاطة عقلانية راشدة، ناجمة عن الأدوات العلمية التي اكتسبها في تخصّصه، وعن نزعة نظرية أخلاقية تدفع إلى اتخاذ مواقف عموميّة وكأنّنا في استعادة لفكرة أرسطو القائلة إنّ من يعرف شيئًا واحدًا هو لا يعرف شيئًا. ونحن نضيف إليها أنّ الذي يريد أن يعرف الكثير في عصرنا، لا بد أن يعرف بعمق شيئًا واحدًا على الأقل. لا يُختزل المثقّف في عصرنا في أكاديميّ مختصّ (وهذا لا ينتقص من دور الأكاديميّ المتخصّص الذي لا يقوم علم من دونه، ولا تُبنى مدينة حديثة) لكنه أيضًا ليس جامعًا للمعلومات العامة، أي من كل بستان زهرة، فهذا في حد ذاته لا يكفي. إن اكتساب هذه الصفة (أي صفة المثقّف) ناجم عن القدرة على اتخاذ المواقف، أي أنّ ما تحدثنا عنه سابقًا هو قاعدة معرفيّة يمكن على أساسها اتخاذ مواقف، والمواقف هنا هي أحكام قيميّة أو معياريّة. ويقع التقاطع هنا، عند المثقف الذي يستحقّ التسمية، بين القدرة على التعميم وتشكيل فكرة عامة وتصوّر عن المجتمع ككلّ، وبين الموقف الأخلاقي. وإذا كان مقصودًا أن المثقف نقديّ بالضرورة، فأنا موافق على ذلك من دون أن يشمل هذا الحكم تحديد معنى الموقف النقديّ. إنّ الموقف النقديّ قد يكون ثوريًّا، وقد يكون محافظًا، لكنه يبقى قيميًّا أو معياريًّا".

خلافًا لمثقفين يهود كثر آتين من اليسار، سواء في أوروبا أو أميركا، يحتلّ الألسنيّ اليهوديّ الكبير المناهض للصهيونيّة والإمبريالية الأميركية نوعام تشومسكي موقعًا خاصًا في الفكر الغربي والعالميّ، وله مقدّروه الكثر في عالمنا العربيّ. مفكر نبيل، أخلاقيّ، شجاع، ثابت في مواقفه، مدافع عن القضية الفلسطينية، له أيضًا نظرته الخاصة إلى دور المثقّف الذي يعدّه التزامًا أخلاقيًّا، ويحمل هذا الدور بعدًا كونيًّا شاملًا. ويلفت إلى أنّ الثقافة الغربية أغلقت كلّ سبل الوصول إلى الحقيقة، مستخدمةً أهمّ الوسائل التي تُنشر الثقافة عبرها ويتشكّل الرأي العام، وفي مقدّمها الإعلام الذي تهيمن عليه نخبة تخدم الأيديولوجيا الأميركية، فكل ما من شأنه بث الثقافة يُسخّر للتبجّج والتهليل الذاتيّ للمبادئ السامية التي يزعم الغرب الالتزام بها، فالإعلام أضحى اليوم ترسانة تستغلّها الدول الكبرى لصناعة الرأي العام وحجب الحقيقة، فتتمّ "تنقية" المعلومات على نحو يتلاءم مع أهداف النظام الأيديولوجيّ. ومن المفاهيم الأساسيّة المتعلقة بدور المثقّف والتي سعى تشومسكي إلى سبر أغوارها ثمة مفهوم "الإستقامة السياسية" الذي لطالما ردّده بعض المثقفين بشيء من التملّق واعتُمد سلاحًا أيديولوجيًّا في سياق الهجوم اليمينيّ على البقية الباقية من استقلال الجامعات وغيرها من المؤسسات الاجتماعية. وينتقد تشومسكي المؤرخ والسياسيّ الفرنسي ألكسيس دو توكڨيل الذي امتدح غزاة القارة الأميركية وقضائهم على سكّانها الأصليين! إذ عدّ المفكر الأميركي هذا الموقف خاليًا من أيّ بُعْدٍ أخلاقيّ أو إنسانيّ. فدور المثقف، في نظر تشومسكي، هو دور معرفيّ يدفعه التزام أخلاقيّ. والدور المعرفيّ هو كشف الحقيقة، والالتزام الأخلاقيّ هو جرأة المثقّف والكاتب بقول الحقيقة في أيّ ظرف وتحت أيّ ضغط. ينبغي أن تظهر الحقيقة ضمن حوار مفتوح بين المثقّف والجمهور كعملية تفاعل بين الطرفين. ويعوّل تشومسكي كثيرًا على دور المثقّف في بناء وعي متحرّر قائم على المساءلة النقدية المستمرّة لكلّ ما يعدّ يقينيًّا مطلقًا، وطرح البدائل التي من شأنها إنتاج ثقافة قائمة على أسس سليمة، قادرة على غرس قيم جديدة تغيّر نظرة الإنسان إلى العالم. كما أن دور المثقّف في المجتمع هو التطبيق في الميدان لا التنظير والتحليق بعيدًا عن الواقع.

حيال مأساة غزة المستمرّة قتلًا وتدميرًا وحصارًا وتجويعًا وانتهاكًا لكرامة الإنسان، ثمة حاجة ملحّة إلى أصوات المثقفين المرتفعة لا المتحفظة أو الخافتة، وإلى الفعل الثقافيّ المشتبك مع المحتلّ الذي ينفّذ عملًا إباديًّا وحشيًّا يندى له جبين الإنسانية، وإلى الصدق والالتزام الأخلاقيّ، أي صفات المثقّف الحقيقيّ والعضويّ، وإلى الشعور الإنسانيّ الذي لا مثقّف يستحقّ صفة المثقّف من دونه. ثمة أصوات كثيرة شريفة ارتفعت في أوساط المثقفين والمبدعين. للمثال لا الحصر: مقابل صوت الطاهر بن جلّون الانتهازي والممالق للوبي الصهيوني الفرنسيّ (حيث يعيش ويُصدر كتبه) ثمة أصوات نبيلة، من المغرب العربي، لكتّاب مبدعين ومثقفين كبار لا يقلّون شأنًا وأهمية عن بن جلّون في دنيا الأدب، أمثال الروائي الجزائري واسيني الأعرج والمفكرين المغربيين عبد الإله بلقزيز وحسن أوريد، والمفكر التونسي فتحي المسكيني... الذين وقّعوا مع ألفي كاتب ومفكر وفنان ومثقف من كل أنحاء العالم العربي "بيان المثقفين العرب" الذي يدين الانتهاكات الإسرائيلية لكلّ القيم الأخلاقية والإنسانية، بلوغًا إلى التطهير العرقي الممنهج للشعب الفلسطيني، مع التأكيد على "أنّ اللغة لا تتسع لهول ما يحدث في فلسطين" بحسب ما يرد في نصّ البيان.

هذا جيّد، مفيد ومؤثّر بحدود معيّنة، إنّما غير كافٍ، ولا يرقى إلى مستوى النضال أو الاشتباك الثقافيّ الفعليّ مع العدوّ. حركة المثقف العربيّ ينبغي ألّا تهدأ، ألّا تستكين، قبل توقّف فعل الإبادة الجاري في غزّة والذي قلّما شهد تاريخ البشريّة له مثيلًا.

*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.