}

عن العنف وأصوله وتاريخ الوجود البشري

جورج كعدي جورج كعدي 17 مايو 2023
آراء عن العنف وأصوله وتاريخ الوجود البشري
الأب هاني بيوس حنّا

يُقَدَّر، مع بعض الاستغراب، أنْ يخوض رجل دين في موضوع فلسفيّ شائك هو عادةً أثيرٌ لدى ملاحدة الفلسفة والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا والأدب والمسرح والسينما وسائر الفنون، فمعالجة ظاهرة العنف البشريّ المتأصّل في الإنسان فطرةً وتكوينًا، تفضي غالبًا إلى نفي وجود الله، إذ لو كان "كلّي القدرة" موجودًا حقًّا لما سمح بتفشّي العنف والقتل والحروب، وبغلبة الشرّ على الخير، وبهذا الكمّ الهائل من الظلم والآلام والمآسي الذي تراكم على مدى عشرات ألوف السنين، أي مذ وُجد هذا المدعو "إنسانًا" على سطح كوكبنا الحزين.

أتحدّثُ هنا عن كتاب بحثيّ قيّم جدًا، مشغول بدقّة وأناة وشمول وغنى مرجعيّ، للدكتور الأب هاني بيوس حنّا، من الرهبانيّة الدومينيكية في العراق، تحت عنوان عريض "الكينونة والعنف وصراع البقاء" وآخر فرعيّ (دراسة في أصول العنف البشريّ – نشأته وأسبابه)، وقد صدر حديثًا لدى "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، بيروت، في 312 صفحة من القطع الكبير، بينها ستّ صفحات لقائمة المراجع بالفرنسية والإنكليزية والعربية. مع الإشارة إلى أنّ الأب هاني (مواليد بغداد 1969، وأتمّ دراسته الأكاديمية بين فرنسا والولايات المتحدة وسويسرا) يحمل دكتوراه بدرجة امتياز في الفلسفة المعاصرة̸  تيار الشخصانيّة الجماعية من جامعة فريبورغ في سويسرا، وله مؤلّفان سابقان على إصداره الأخير هذا هما "الشخصية والالتزام والجماعة" (منشورات "ضفاف"، 2015) الذي يُبحر في فكر إيمانويل مونييه، و"مدخل إلى تاريخ المفاهيم" (منشورات "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، 2022) ويجول فيه الباحث بين عصر النهضة والفكر المعاصر من فرانسيس بيكون إلى إيمانويل ليفيناس. فضلًا عن ترجمة لكتاب إيمانويل مونييه "مدخل إلى المذاهب الوجودية" ("دار الروافد الثقافية"، 2017).

من قراءتي الشاملة والمتأنّية والممتعة فكريًا لهذا المؤلَّف القيّم جدًا، خرجتُ بالخلاصة المختصرة الآتية: يخلص هيغل في فلسفته إلى استنتاج مفاده أنّ تاريخ الوجود البشريّ مستحيل من دون عنف. ففكرة عالم مسالم تمامًا – أو يأمل في سلام دائم بحسب كانط – تتعارض مع طبيعة العنف في البُعد التاريخيّ للبشريّة. لذا لا يمكن تجاهل العنف باسم "سلم" قد يبدو عبثًا، بل غير كافٍ. وقد برّر هيغل اللجوء إلى العنف في إطار جدلية تخترقها فكرة "سيادة الروح المطلق" (الله)، كي تقاوم حركة تمدّد الواقع المستمرّة بلا نهاية، وبذلك يبتعد هيغل عن "مثالية" فكرة السلام الكانطيّة التي يمكن مقارنتها بـ"المدينة المثالية" الأفلاطونية التي، حتى أفلاطون نفسه، لم يكن مقتنعًا بإمكان تحقيقها على أرض الواقع. وتجسّد الحرب، بحسب هيغل، الحقيقة الأولى للدولة، إذ تكافح كلّ دولة من خلال الصراع للاعتراف بكيانها. ويمثل التاريخ العالمي بالنسبة إلى هيغل تطبيقًا لوجود "الروح المطلق" في "جدلية السيّد والعبد" التي طرحها في كتابه "فينومينولوجيا الروح". والحرب، في نظر هيغل، تحفظ الدول من الهلاك بسبب تفرّدها وعزلتها (...) وتجنّبها الوقوع في "العادة القاتلة" (السلم) الذي يدمّر الاقتصاد (!)، في حين أنّ الحرب أو الصراع يُنعشه (!). كما يرى هيغل (الذي يستخفّ فلاسفة كبار من معاصريه بنظريته هذه بل بكامل فلسفته، وفي مقدّمهم عدوّه الفكري اللدود آرثر شوبنهاور) أنّ الحرب هي التي سمحت لـ"روح العالم" بالتقدم من الشرق إلى الغرب، ومن بلاد فارس إلى اليونان، ومن الأخيرة إلى روما، ومن هذه إلى الإمبراطورية الجرمانية. ليخلص هيغل إلى أنّه لا يمكن تجاوز الصراع (العنف) الذي تنطوي عليه بنية الدولة.

على النقيض من فلسفة هيغل وتبريره الجدليّ والفينومينولوجيّ للحرب والعنف والصراع، يقف فلاسفة وأنثروبولوجيون ومفكرون وأدباء كثر، في مقدّمهم الفيلسوف الفرنسيّ إيمانويل ليفيناس Levinas  (1906 - 1995) الذي انتقد الفلسفة الهيغيلية وكلّ الفلسفات المثالية و"الكلّانية" (Totalité) من خلال إعادة بناء ميتافيزيقا جديدة، منطلقًا من مفهوم "الآخر" ذاك الحاضر – الغائب الذي هو أمامي أراه وأشعر به، وغائب لكونه خارجًا عني تمامًا. هنا، بحسب ليفيناس ينكشف لا تناهٍ في علاقة الأنا مع وجه الآخر، فالأنا ذات مسؤولية "لا متناهية" عن مصير وجه الآخر. ويعزو ليفيناس الشرّ والعنف في المجتمعات إلى انغلاق الأنا على ذاتها ورفضها للخارجيّ؛ الله، والآخر. ويقول ليفيناس "إنّ الأنا هي أزمة كينونة الكائن في الإنسان". "الكينونة" هي معضلة الفلسفة الأولى، بل "إنّ الكينونة هي العنف نفسه" بحسب ليفيناس الذي وهو يحاول تفسير إشكاليّة العنف والحرب، لا يلقي اللوم على الإنسان في تصرّفه العنيف، ولا ينسب هذا العنف إلى "طبيعة بشرية" عنيفة تحاول أن تتأقلم ضمن بيئة ثقافية معينة يمكن وصفها بالعنيفة أو الدموية، بل هو فكر ليفيناس الجذريّ الذي يؤكد على أنّ مفهوم الكينونة هو العنف نفسه، كما أسلفنا. كأنّ العنف يمثل جوهر (هوية) الجوهر، فلا شيء ليس عنيفًا. الكائن باحثًا باستمرار عن هوية، يبقى عنيفًا على الدوام. لا يمكن الفصل بين الكائن وجوهره (أي العنف). لذا تمثل الحرب بالتالي شكل العنف الأصليّ، في نظر ليفيناس القائل إنّ الحرب هي "خبرة خالصة وأولية في الكينونة"، هي مسألة أنطولوجية قبل أن تمسي إشكالية اجتماعية متّصلة بتركيبة الوجود. تدمر الحرب الكينونة بكلّ فروعها الإنسانية: الأنا والآخر والنحن – الأخلاق. تمثل الحرب، في نظر ليفيناس، اختبارًا أخلاقيًا هائلًا في سائر المجتمعات، إذ تضع المجتمع البشريّ أمام مسؤوليته الأخلاقية وعلى المستوى العالميّ، فالحرب لا تكتفي بهدم الأخلاق فحسب، بل تفسده وتسخر منه، حين تضمّه إلى جانبها وتستغلّه (Politically correct). الحرب هي "بترٌ للاستمراريّة بين البشر لدى مهاجمتها أهمّ ميزة لديهم: التواصل". فالتواصل أساسيّ في بناء سلام بين البشر إذ يكشف، على نحو أعمق، شيئًا فريدًا في تركيبة كلّ إنسان، "هويّة" كلّ إنسان، لا كحرب ونزاع بل كجسر بين البشر.



يوازن الدارس بين النظريّات الفلسفية والفكرية المتناقضة، على نحو ما يتجلّى في نظرتي هيغل وليفيناس، ويمضي أحيانًا نحو آراء أكثر حسمًا وراديكالية كما لدى عالم الأجناس والكاتب المسرحيّ الأميركي روبرت أردري Ardry (1908 - 1980) الذي عالج في أحد فصول كتابه "الأصل الأفريقي" والذي يحمل عنوان "نحن أولاد قايين" فكرة "أنّ الإنسان مفترس وغريزته الطبيعيّة هي القتل باستخدام سلاح (...) وأنّ الحرب شكّلت، منذ بدايات التاريخ المدوّن، الطريق الأكثر طبيعيّة لتعبير الإنسان {ذاته}، وكان تطوير الأسلحة الشاغل الأبرز للبشر (...)" وأنّ "من طبيعة الإنسان أن يقاتل (...)"، و"أنّ الحرب وغريزة الاستحواذ دفعتا الإنسان الغربي نحو الإنجازات العظيمة. قد تكون الأحلام هي التي ألهمت حبّنا للحرية، لكن الحرب والأسلحة فقط جعلت ذلك ممكنًا".

من ناحيته، كتب عالم الاجتماع الألماني وولفغانغ سوفسكي Sofsky: "يتجانس العنف مع تاريخ البشرية من البداية إلى النهاية، فيخلق العنف الفوضى، أمّا النظام فيخلق العنف. لذا من المحال أن يجد المرء حلًّا لهذه المعضلة. بناءً على الخوف من العنف، يخلق النظام الخوف والعنف مرة أخرى". تتكشّف هنا مفارقة صارخة: يولد التحضّر كعنف نتيجة لرغبة الأفراد في ترويض العنف فيهم، فالمجتمع يستعين بالعنف للحدّ من عنف الأفراد والسيطرة عليهم من خلال ممارسة العنف المقنّن، أي الذي وضعت له قوانين تبرّر استخدامه. هذه الحلقة المفرغة لا تزال تأخذ صيغًا وصورًا "متجدّدة" في كلّ عصر وكلّ مجتمع. فهل أسهم "التحضّر" أو "التمدّن" في تراجع العنف لجعل الإنسان سعيدًا؟ ليس الأمر مؤكدًا، فلزيغموند فرويد رأي آخر إذ يقول: "جعل التقدم التقنيّ الإنسان فخورًا بابتكاراته، لكنّه لم يعد يشعر بأنّه أصبح أكثر سعادة". ويبدو أنّ هذا "الطيش" والهوس حيال التكنولوجيا قاد إلى "لا إنسانية التكنولوجيا"، بحسب إيمانويل مونييه Mounier (ترجم له الدارس أحد مؤلفاته) الذي وضع غياب الرجاء مقابل تقدم حضاري يحدث من دون الإنسان، وكان ماكس فيبرWeber  قد وصف ذلك بـ"خيبة أمل العالم" (Désenchantement du monde)، فالإنسان عاجز، في رأي ألبير كامو Camus، عن السيطرة على "كلّ" شيء. تولّد خيبة الأمل شعورًا عميقًا لدى الإنسان بغياب معنى ظواهر العالم أمامه، كأنّه يُفلت كلّ مرّة نحاول وضع اليد عليه لتفسيره واستنباط معنى له. يتخذ تعليل الظواهر، ومن ضمنها العنف في المجتمعات المتحضّرة، أشكالًا جديدة "متحضّرة" على الدوام، متجسّدةً في حروب ومذابح، ومستخدمةً الوسيط عينه: "المعرفة العلمية"، للفتك بطريقة أكبر وأكثر فاعلية. وما القرن العشرون إلّا شاهد حيّ على هذه المفارقة بين درجة "التمدّن" والفتك الهائل الذي يمكن أن يتسبب به التقدم على صعيدين، خارجيّ متمثّل في النزاعات بين الشعوب، وداخليّ متمثّل في بناء فردانيّة تدفع الفرد إلى كبت عنفه تحت سيطرة مجتمعه.

يلفت الدارس إلى أنّ فلاسفة اليونان سعوا إلى فرض هيمنة العقل للسيطرة على عنف البشر، بيد أنّ التحضّر انكشف عنفًا من "نوع جديد": عنف التنظيم

في الفكرة الأخيرة عينها، يلفت الدارس إلى أنّ فلاسفة اليونان سعوا إلى فرض هيمنة العقل للسيطرة على عنف البشر، بيد أنّ التحضّر انكشف عنفًا من "نوع جديد": عنف التنظيم. قدّمت الفلسفة العلاقة بين التمدّن والعنف في صورة سياسية إداريّة مثل المدينة (اليونانيون) أو الدولة (العصر الحديث). طرحت الفلسفة "العنف" كـ"فكرة" أكثر من كونه "ظاهرة"، فحوّلت " الجمهورية " – التي سعى أفلاطون إلى وصف ركائزها – "فكرة" النزاع العشوائيّ في طبيعة البشر إلى بُعدٍ "ماديّ" متجسّد في مطالب: الملكية والجدارة والاستحقاق، وكان الذكاء معيارًا لدى طبقات الحكم في "المدينة" الأفلاطونية. لم تُعالج "جمهورية" أفلاطون إشكالية العنف بوضوح فلسفيًا، بل أدرجتها في حيّز مادي لا أنطولوجي. تختفي إشكالية العنف من حيّزها الفلسفي عندما يحاول المرء تطبيقها استنادًا إلى "نظريّة المُثُل" الأفلاطونيّة في المجال السياسيّ. رأى أفلاطون أنّ نظريّة المثل هذه وسيلة ناجحة لتفسير التنافس بين البشر. دَرَسَ العنف "عقلانيًّا" مستنتجًا أنّ الحرب تنشأ بسبب تنافس الأفراد على "الممتلكات" وخوفًا من استيلاء الآخرين عليها، مقترحًا حلًّا من خلال إنشاء ترتيب هرميّ مشابه لما هو موجود في نظريّة المُثُل يُطبَّق على السياسة. يقسّم أفلاطون النفس البشرية إلى ثلاثة أجزاء: العقل والإرادة والشهوة، تقابلها ثلاث طبقات في الدولة أو المجتمع المثاليّ: الملوك والفلاسفة، الحرّاس أو الجنود، المواطنون العاديون كالمزارعين والحرفيين والتجار. يمثل الملوك الفلاسفة "العقل" والحرّاس "الإرادة"، والمواطنون العاديون "الشهوة". لكنّ أفلاطون أهمل ما هو "خارج" الحيّز الأخلاقيّ المثاليّ الذي بنى عليه مجتمعه العادل. إذ لا تكمن غاية الرغبة (أو الشهوة) في امتلاك الأشياء في العالم، وإن بدت كذلك، فهي تبقى مفتوحة على اللانهائيّ (حقيقة لعلّ ماركس أهملها بـ"تقنين" حاجات الفرد الذي لا حدود لرغباته في التملّك – ملاحظة لي لا لصاحب الدراسة). فإن تسمّرت الرغبة في شيء ما تتحوّل إلى حاجة ولا تبقى رغبة. وتستند الرغبة بطبيعتها إلى المحاكاة، فهي عنيفة وضرورية، وتؤول الصراعات التي لا مفرّ منها في محاكاة الرغبة إلى العنف الاجتماعي. تبدو السلطة في نظر أفلاطون أشبه بنظام "حَجْرٍ صحيّ" أو سجن كبير لمكافحة "طاعون" الرغبة اللامتناهي والعنف الناجم عنه.

في المقابل، يولي أرسطو اهتمامًا أكبر بطبيعة البشر، مستندًا إلى فكرة أنّ النفس غير مسؤولة عن تزويد الإنسان بتصرّفاته، بل القانون الطبيعيّ هو الذي يقوم بهذا الدور. والمدينة بالنسبة إليه جزء من الطبيعة المرتكزة على فكرة أنّ الإنسان "حيوان سياسيّ اجتماعيّ"، أمّا الإنسان فيكون إمّا ساميًا أو سافلًا، وإذا لم يكن مدنيًّا فهو متوحّش مشرّد، ومَن طبع على ذلك لا تريحه سوى الحرب. ولأنّ الإنسان "حيوان ناطق"، أي يملك لغة، فهو تبعًا لأرسطو منفرد دون سائر الحيوانات في النطق للدلالة على النفع أو الضرر، وفي معرفة الخير والشر والعدل والظلم وما إلى ذلك. كما أنّ تبادل المعرفة ينشئ الأسرة والدولة (من "كتاب السياسة" لأرسطو). ويؤكد أرسطو على أنّ الدولة تتقدّم على الفرد، ومن لا يستطيع الائتلاف مع فكرة الدولة أو لا يمتّ إليها بصلة فهو "وحش أو إله"، مضيفًا في الكتاب عينه: "من الواضح أنّ الإنسان قابل للحياة الاجتماعية أكثر من النحل وسواه من الحيوانات الأليفة"، فهو الحيوان الوحيد الذي إذا فقد فضيلته أصبح أبشع الكائنات، وهو خلافًا لباقي المخلوقات قادر على أن يكون أكثر فوضويّة ووحشيّة من باقي الحيوانات. يستطيع أن يكون مدنيًّا يحترم القانون، أو وحشًا عندما يعصي القوانين ويحارب القيم فيبتعد عن المدنيّة.

 يخلص هيغل في فلسفته إلى استنتاج مفاده أنّ تاريخ الوجود البشريّ مستحيل من دون عنف


لا مفرّ لرجل دين ولاهوتيّ مسيحيّ، دارس وباحث، من أن يعرّج في دراسته هذه حول العنف البشريّ، خاصة في النزاعات والحروب، على كبار اللاهوتيين والمفكرين المسيحيين أمثال أغوسطينوس وتوما الأكويني، فلدى الأوّل تتجاوز "مدينة الله" الزمنيّ الغارق في الاضطرابات والكوارث، إذ تتكوّن هذه المدينة من جانب إلهيّ هو المسيح، وذاك ما تفتقر إليه المؤسسات المدنيّة إزاء عوادي الزمن. أضحى كتاب "مدينة الله" ركيزة الفكر السياسيّ في القرون اللاحقة، ويتضمّن أفكار أغوسطينوس في مفهوم "الحرب" الذي يحسبه "مفهومًا ضروريًا"(!) لأنّ غائيّة (Finality) الحرب هي السلام (!). هذه الغائيّة تأخذ مع أغوسطينوس بُعْدًا تنظيريًّا إذ يتساءل: هل تحقّ للمسيحيين المشاركة في حروب إمبراطوريّة وثنيّة من دون أن يشكل ذلك تناقضًا مع غاية الوجود المسيحي الحقيقية وهو الوجود المقيم في "مدينة الله"؟ لا تنفصل مسألة الحرب العادلة، بالنسبة إلى أغوسطينوس، عن الصراع بين المدينتين ("مدينة الله" و"مدينة البشر"). لذا لا يتعارض رجاء "مدينة الله" مع مقتضيات المدينة السياسية، إلى حدّ أنّ على المسيحيّ أن يقاتل من أجلها.

هكذا تفرض تعاليم أغوسطينوس على "الحرب العادلة" نزعتي: التقاعس̸  عدم التدخل (Pacifism)، وإثارة الحروب. بالنسبة إليه، وحدها الحرب "الدفاعية" تشكل شرعيّةً لكونها عادلة وتهدف إلى إصلاح انتهاك للقانون وضرر لحق به، وهي تخضع لثلاثة معايير: الهدف (الأخلاقي)، أي إعادة السلام، واتخاذ القرار (الشرعية السياسية)، والسبب القانوني (إصلاح حق منتهك). يضع أغوسطينوس مفهوم "الحرب العادلة" على تقاطع بين "اللاهوتيّ" و"السياسيّ" لكونهما ثمرة "شدّ" بين هذين البعدين. إنّما يحدث تحوّل في المفهوم المسيحيّ لـ"الحرب العادلة" لدى نشوب صراع داخل الأمم المسيحية (كما حصل في القرون الوسيطة).

تمثل الحرب شكل العنف الأصليّ، في نظر ليفيناس القائل إنّ الحرب هي "خبرة خالصة وأولية في الكينونة"، هي مسألة أنطولوجية قبل أن تمسي إشكالية اجتماعية متّصلة بتركيبة الوجود

إلى الفيلسوف الكبير كانط الذي وضع كتابًا صغيرًا عنوانه "مشروع السلام الدائم"، مُبْرزًا عدم جدوى الحرب في استتباب السلام، مستعينًا بمفهومي "الفطريّ" و"المكتسب"، فهو لا يرى في السلام حالة "فطريّة"، بل أشبه بنداء داخليّ نابع من قلب البشر وباحث عن صيغة "استقرار"، قائلًا في كتابه هذا: "ليست حالة السلام بين أناس يعيشون جنبًا إلى جنب حالةً فطريّة، فالحالة الفطريّة أدنى إلى أن تكون حالة حرب. إنّها، وإن لم تكن دومًا حربًا معلنة، إلّا أنّها منطوية على تهديد دائم بالعدوان". يعدّ كانط الشعوب "وحدات" فردية تميل إلى العيش وفق قانون الغاب، بلا قانون مشترك، فتتصرّف بفطريّة مماثلة لتلك التي تهيمن على تصرّف الأفراد في علاقاتهم العنيفة. فالفطرة مرتبطة بالميل إلى الحرب، ولا يمكن للطبيعة الحيوانية في عنفها العشوائيّ التكهّن بالاتجاه الذي يمكن أن يأخذه عنفها. لذا قد ينطبق التصرّف الفطري̸ّ العشوائيّ على شعوب بأكملها: "إنّ شأن الشعوب، حين تصير دولًا، كشأن الأفراد: في حال الفطرة (أي غياب كلّ قانون خارجيّ) يعتدي بعضها على البعض الآخر بحكم الجوار".

ينفي كانط قدرة البشر على التحكّم في العنف، لذا من المفترض لو وقعت الحرب كحلّ لا مفرّ منه أن تكون هناك حدود يجب أن يحترمها المتحاربون كي لا تتحوّل تلك الحرب (التي لا مفرّ منها أحيانًا) إلى "إبادة" يقودها العنف والوحشية اللذان يتسبّبان باقتلاع الآخر وفنائه، قائلًا: "إنّ حرب الإبادة، التي تفضي إلى هلاك طرف أو كليهما، وإلى القضاء في الوقت نفسه على كلّ حقّ وشرع، لا تدع للسلام الدائم مكانًا واستقرارًا إلّا في قبر يضمّ الجنس البشريّ".

هنا، بعد كلام كانط، يخصّص الأب هاني عنوانًا فرعيًّا وافي المضمون عن "الأمم المتحدة" (ثمرة فكر كانط) كنموذج لفشل المنظمات الدولية التي ينبغي أن ترعى السلام بين الدول وتمنع الحروب... فإذا بها تغطيّ حربًا وحشية ضدّ بلده العراق، مثالًا لا حصرًا.

تبقى لي، ختامًا، حول هذا المؤلَّف القيّم والغنيّ جدًا، ملاحظتان: الأولى تتعلّق بما أورده الدارس الجليل والقدير، رفيع الثقافة، بشأن الغرب الذي نرمي عليه – بحسب الباحث -  كلّ مشاكلنا في عالمنا العربيّ (وهذا صحيح تمامًا في جانب منه) لكن أن يقول ما حرفيته "ليس الغرب أفضل، لكنّه على الأقلّ تعلّم ولو شيئًا يسيرًا من دروس ماضيه وصراعاته الوحشيّة (...)" ففي هذا القول أمر غير مقبول من باحث ومفكر لامع مثل الأب هاني الذي خصّص صفحات مسهبة للجريمة الوحشيّة التي ارتكبها الأميركيون (ومعهم أذنابهم الأوروبيّون) في بلده العراق! ألا تناقض في الرؤيتين لهذا الغرب الإمبرياليّ والليبراليّ المتوحّش الذي فعل ما فعل في العراق، ويفعل كلّ يوم على أرض فلسطين، وفي أفريقيا (الفرنسيون في مالي) مثلًا، بل في جهات العالم الأربع؟ والملاحظة الثانية تتّصل بما كان ينبغي أن يقدم عليه المؤلف، تبعًا لمنهجيّة البحث، بترك موضوع العراق، العزيز له ولنا، لدراسة وبحث خاصّين، عوض إقحامه في سياق دراسة فكريّة محض تجوب أرض الفلاسفة والمفكرين، غربًا وشرقًا، قديمًا وحديثًا، للتأمّل في مسألة العنف البشريّ الشائكة؟!

في أي حال، أوصي بشدّة بقراءة هذا الكتاب الثرّ، المدهش، العميق، الرائع، الذي لا تشهد الإصدارات العربية مثله الكثير.

 

٭ناقد وأستاذ جامعيّ من لبنان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.