}

الهويّة والآخر: "أن تكون واحدًا مثلنا"

فدوى العبود فدوى العبود 10 فبراير 2024
آراء الهويّة والآخر: "أن تكون واحدًا مثلنا"
صدرت رواية "الرجل الخراب" عام 2015
إذا كانت الهويّة تعني "الخصوصيّة والاختلاف"، أو "الامتياز عن الأغيار" عند الجرجاني، وطبيعة الشيء الثابتة حسب ابن خلدون؛ فإن تنوع وغنى ما يكونها يجعل منها مهدًا للتجاذبات، ومحلًا للتناقضات. وسؤال من أكون؟ يصعب اختزاله في كيفية وجودية ثابتة، بل إنه يجعلنا عرضة لابتكار دائم لصيغ العيش، ردًّا على القسر والتهميش والإلغاء، وما الفن سوى محاولة لتظهير ما لا يُرى!
فإذا كانت التغييرات اليومية تترك علينا آثارها وندوبها، فما بالنا إذا كانت الهزّات عنيفة والرضوض قاسية كاللجوء والهجرة والحروب. قد يفرّ الإنسان من ديكتاتورية بلاده العنيفة ولكنه معرّض لأنْ يواجه بقوة (ناعمة غير مرئيّة) في تلك البلدان وحين يُخفق في أن يكون جزءًا من ثقافتها المتفوِّقـــــة، ومن المجتمع المتجانس؛ سيقوم عتاد من المرشدين النفسيّين وجيش من المختصّين بعملية ترويض طويلةِ الأمد.
وإذا كانت الحروب الأوروبيّة قد وضعت قيم الحرية والعدالة فوق أرض رخوة، فإن قيمًا أخرى اهتزت بوصول القوارب المطاطيّة ورحلات الموت إلى شواطئ أوروبا.
(الانفتاح ـ الاندماج، المجتمع المتجانس) هذه هي المفاهيم التي نزع عنها المفكر الهندي وأستاذ الأدب في جامعة هارفرد، هومي بابا، إلفتها بالتركيز على ما يجعل الهويّة منشطرة ومحلًا للتقاطعات التاريخيّة والزمانية والمكانيّة؛ فأصبحت مفاهيم التسامح والمدنيّة عرضةً للسؤال ووضعت ديناميّات السلطة والهيمنة تحت مبضعِ الثقافة.
كيف يرانا الآخر؟ وما نوع الهوية التي تتشكل في ظل اللجوء؟ وكيف تنظر أوروبا للدخيل وكيف ينظر الأخير لنفسه؟ هذه وغيرها هي أسئلة يمثلها بطل "الرجل الخراب" (2015)، للكاتب السوداني عبد العزيز بركة ساكن. فهذه الرواية التي لفتت الأنظار بتقنيّاتها السرديّة وأساليبها الفنّية، نالت حظًّا من القراءات والتناول الأدبي، تمحورت بمعظمها حول كونها تعريـــــــةً للذات العربية التي تتظاهر بالاندماج والانفتاح، ولم تخرج أغلب هذه القراءات النقديّة عن النظرة الاستشراقية القائمة على اضطهاد الآخرين عبر العتاد الثقافي؛ رغم أنها كتبت بأيد عربية، إلاّ أنها تتبنى نظرة الآخر.
فالرواية التي افتتحت ببيت من قصيدة شارل بودلير في ديوانه "أزهار الشر": "أيها القارئ المُرائي، يا شبيهي، يا أخي!"، تحفل بثيمات كثيرة كالاندماج والهجرة وأوضاع المهاجرين وصراع الهوية وعلى مدار أحد عشر فصلًا (نذكر منها: توني لا يكره العرب ـ مخريّ الكلاب ـ الفضيحة ـ الأجنبي ـ السيدة لوديا شولز ـ حوار من أجل البنت  ـ الرجل الخراب) نتعرف إلى حسني درويش ونحظى كقرّاء بفرصة لفهمِ نوعٍ من الهوية التي تتشكل في المنطقة المخفيـــــّة بين التخوم: "منطقة ثالثة لا يُنظر لها عادة".
لقد وصل الشاب المولود لأب سوداني وأم مصريّة (والذي رُفض من مدير مدرسة مصرية باعتباره أجنبيًّا، وانخرط في شبابه في إحدى الجماعات الإسلاميّة لضحالة ثقافته)، إلى النمسا، وهناك عمل مخريًّا لكلاب السيدة شولز، ثم تزوج من ابنتها نورا شولز، وبدأ عملية محوٍ لتاريخه بدءًا من اسمه الذي استبدله باسم مختصر وبسيط/ هاينريش. و"هو يفضّل أن يبدأ حياته من دون تاريخ"؛ إضافة لكونه "لم يختبر أفعاله في مقابل ما يؤمن به بدقة" وهويّته لم توضع إلى حدّ الآن أمام امتحان حقيقي.
وها هو الاختبار الجديّ آتٍ في الطريق. فحين أخبرته نورا شولز "أنها سعيدة، لأن ابنتهما ميمي وجدت أخيرًا صديق، وهذه قد تكون ـ وهذا ما تهمسه في أذنه ـ ليلتها الأولى"،
نتعرف إلى درويش عن قـُرب، كرجل مشكوك في اندماجه المجتمعيّ، فقد مرّ بتجربة عنف مع ابنته التي صفعها، ثم أُخضع لدورة تأهيل نفسي وهو يعيش صراعًا حادًّا بين عدم فهمه لطريقة تفكير زوجته نورا شولز وبين خوفه منها؛ باعتبارها تمثل الثقافة الأوروبيّة في سلوكها إزاء الدخيل، حيث حولته إلى حشرة (تحت مجهر)، تُراقب أفعاله ودرجة اندماجه في قيم المجتمع الذي يُأويه. وحين لمحته يصليّ، أخبرها أنه كان يشكر الرب على وجوده في هذه البلاد.
وهو إذ يرفض قيم الثقافة الأوروبيّة المتمثلة بأن يكون لابنته صديق يعيش معها كالأزواج، فإنه في الوقت ذاته يخاف من الجانب العنيف للدين؛ وهذا ما دفعه لإلغاء حصّة الدين من دروس ابنته في طفولتها، فبدا الأمر كرمي حصاة في بركة ماء ساكنة ثم مراقبة الدوائر والحلقات التي تتّسع بالتدريج.




إن هاينريش مرتبك وشرفه مهدد، وفي الوقت ذاته عليه أن يبتسم، ويشرب نخبًا حتى لا يضع نفسه موضع شك. وهو ليس حسني درويش ولا هاينريش في آن واحد، بل مزيج من كليهما. وهنا تغدو التناقضات في شخصيته "سبيلًا للكشف عن الانزياحات الاجتماعيـّة والثقافيّة التي تمثلها"، فماضيه يكشف بوضوح عن ضحالة ثقافته، وهو ليس ندًّا ولا صديقًا ولا زوجًا لنورا شولز، بالنسبة لأوروبا، إنه مجرد تابع.

"ماذا لو تكلم التابع؟"
ومع أنه قطع صلته مع كل ما هو عربي ومسلم، ولا يريد أن يتحمل ما يقوم به هؤلاء من شرور. لكن عليه أن يبرهن دائمًا على كونه مندمجًا وحضاريًّا. إنه نقطة التقاء نمطين من الخطاب وهو علامة على تناقضهما، ومحل لثقافتين مختلفتين تتصارعان من خلاله. وهنا ينشأ نوع من المقاومة فهو لا يستسلم لسطوة الهويّة الدخيلة؛ وعبر المتخيل يقوم ببناء نهايات تتوافق وثقافته.
فإذا كانت ابنته ميمي تستقبل حبيبها في غرفة البيت هنا في النمسا، فهي هناك ـ في قرية صغيرة لا يمكن رؤيتها حتى بالأقمار الصناعية، ولا وجود لها على الخريطة- فتاة بدينة تُعاقب على شُبهة غرام بتزويجها عنوة لابن عمّها، وهذه اللحظة، لحظة دخول طوني إلى حياة ميمي ـ اللحظة التي تنتظرها الأم ـ تكشف ما يطلق عليه هومي بابا "لحظة الغرابة التي تربط ما في التاريخ الشخصي والنفسي من تجاذبات".
فالذي يبكي فوق السرير هو حسني درويش، وحين يقف أمام نورا شولز هو هاينريش، ولا يمكن فصل صعود درويش في شاحنة الخنازير عن لحظة قدوم عشيق ابنته، فتاريخه ملتصق به كما يلتصق الغراء بالصوف؛ صحيح أنه أقل من أن يهتم بتاريخه الشخصي الذي هو امتداد للتاريخ الجمعي؛ لكنه عاجز الآن، وليس أمامه سوى حلم اليقظة، علّه ينقذه من المأزق، حيث سيذهب لسريره ويبكي بالعين التي وصفها هومي بابـــــا "العين الأصدق، عين المهاجر الذي يرى رؤية مزدوجة".
يمكن لحكاية حسني درويش/ هاينريش أن تعطينا فكرة واضحة عن مأزق الهوية والثقافة في آن واحد، وهي تنحو باتجاهين. داخل/ خارج.
هوية الذات/ هوية متبنّاة أو خارجية.
داخل/ ثقافة الفرد، أو الثقافة الأم/ خارج/ الثقافة التي وفد إليها.
إن العالقين على الحدود الثقافية "بين ثقافتين" يمكن أن يكونوا مثالًا عميقًا يجعلنا نسأل مع هومي بابا عما يخرج من هذا الحطام! ويمكننا أن نكون أكثر تفاؤلًا وانفتاحًا على طريقة أمين معلوف والهوية التوفيقية والتوافقية. لكن ما يريد النص قوله في مكان آخر، بحيث يبلغ سوء التواصل الثقافي ذروته على المستوى اللغوي بين درويش وطوني، الذي وفي لحظة غضب، وفي محاولة منه لحماية ابنته، همس في أذن الأخير عبارة بذيئة، والأخير فهمها كدعوة حب "كنت أتوقع كل شيء إلا أن يكون والد حبيبتي مثليًّا".
تهشّم رواية "الرجل الخراب" أفق التوقع، وتحقق جماليّات التلقي من خلال تحطيم الشكل الكلاسيكي للقّص، وعبر استخدام تعدد الرواة وتضاد مشاعرهم وأقوالهم ونزاعهم والزج بالقارئ في ثنايا العمل وهي تضع المؤلف، في تضَاد مع نوايا الراوي الذي لا يعرف مآلات النص وإلى أين ينتهي؛ والمؤلف عاجز عن توقع ردود أفعال شخوصه وهو يعتذر عن هذا التضاد في الرغبات بينه وبين الراوي؛ فبينما يرغب المؤلف بالبدء من نقطة مركزيــــّة، يُفضّل الراوي استرجاع تاريخ حسني درويش. إنه ليس راويًا عليمًا، ولا متحكّمًا بالشخوص أو في مسار السرد الذي يبدو مستقلًا عن الذات الساردة؛ وحين تتأزم الأمور يستأذن في قطع السرد ويعتذر لخروج الراوي عن السياق فيتراجع الراوي العليم إلى الخلف وتتعدد الأصوات.
وبالعودة للشخصية: إنه الآن- ونقصد حسني درويش ومن موقعه القلق على التخوم- ينطبق عليه وصف هومي بابا "يُخضع الأساس التاريخي الذي تقوم عليه أحكام الغرب الأخلاقيّة لضرب جذريّ من إعادة النظر".
وكائنًا ما كان هذا الفضاء الذي أحاط به، فهاينريش يسكر ويصلي ويمارس الحب لو توفر له، إنّه مزيج من كل هذا، لكن كل هذا لا ينتمي إليه كله؛ لا ثقافته التي أراد خلعها ولا الثقافة التي رحبت به بشرط: أن تكون واحدًا مثلنا.
إن أسئلة وشكوك نورا شولز تمثل أوروبا في وجهها الصريح؛ وهنا نتمثل ورطة الثقافة الأوروبية في علاقتها بالأكزوتيكي أو الدخيل، ودرويش علامة على زيف الاندماج، وإن وعي الإنسان لهويته يفترض ضمنًا وعيه بأفعاله ومبرراته ودوافعه؛ لكن حسني درويش يقف فوق التخوم الأكثر غموضًا والتباسًا. وربما هنا يأتي دور الأدب: كشف هذه الهويّة المخربّة.
كتب مانغويل مرة "إن كان وجودنا يعني أن نكون مدركين، فإن معرفة أننا موجودون تستلزم معرفة الآخرين الذين ندركهم ويدركوننا"، لكن حسني درويش غير مدرَك ـ بفتح الراء ـ وهو ينتهي بالقتل. فالعنف هو النتيجة الحتمية، وهنا يأتي دور الأدب، فثمة تفاؤل وحيد هنا رغم تشاؤمية ما يحدث؛ هو أننا وحالما نصبح واعين "بالآثار الرهيبة التي تفرضها الخطابات المتناقضة علينا، فمن المتوقع أن نتمكن من إيجاد وسيلة ما للهربِ منها".

إحالات:
ــ كاثرين بيلزي، الممارسة النقدية، (1980) مقدمة قصيرة.
ــ بابا، هومي. موقع الثقافة، ت: ثائر ديب. القاهرة، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة.
ــ ماذا لو تكلم التابع: (عنوان كتاب لـ غاياتري سبيفاك، هل يستطيع التابع أن يتكلم؟).

*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.