}

القصة ومغامرة الكتابة التجريبيّة: عن "مقبرة الخردوات"

فدوى العبود فدوى العبود 10 مارس 2024
آراء القصة ومغامرة الكتابة التجريبيّة: عن "مقبرة الخردوات"
"مقبرة الخردوات": سرد مفتوح على المغايرة والصدفة واللاسببيّة
برسومات محمد العامري، ومن خلال اثنتي عشرة مفكرة، يقدم أنيس الرافعي كتابه "مقبرة الخردوات"، التي يمكن القول بأنها سيرة ذاتية للتجريب، في فترة تمتد بين 1999 و2022.
يتعرف فيها القارئ إلى الطريق الوعر الذي يسلكه الكاتب. والمثير هنا أن السيَر لن يكون بانتظام. وفي هذا الكشف عن عمل الخيال ما قبل مرحلة الكتابة وفي أثنائها سيتشكل من هذه النثرات مرجع نظري للمهتمين بالتجريب وأسسه النظرية القائمة على (التقمص ـ تفكيك المركزية ـ الاختفاء ـ بصريات السرد ـ الغنوصية ـ المرجع البصريّ).
ويمكننا أن نعثر في هذه المقبرة الأدبية على رؤية للقصة القصيرة بوصفها حالة عرفانيّة؛ لا تقل كتابتها عن مشقة التدرج في مراتب الزهد في أولى مراحل تدرجه نحو الكمال؛ وفي هذا التدرج لا يمكن للكتابة أن تخضع لتخطيط ونهايات متوقعة؛ بل تصبح أقرب للحياة في مفاجآتها.
نقرأ في الشذرة 29، وتحت عنوان: موعد لا يجب إخلافه: "القصة ذهاب إلى موعد لا يجب إخلافه مع اللامتوقّع واللامتصوّر". توضح هذه الشذرة وبأثر رجعي تقنية بناء النصوص كمغامرة مستعدة دائمًا لاستكشاف أراض جديدة.
ولا يقتصر على حمل معولٍ للهدم والتنقيب، وإلاّ تحّول القاص إلى نابش قبور فقط؛ إنه البحث في العلاقة بين ما يبدو ظاهريًا غير قابل للالتئام، البحث في المنقطع والمتوتر والمختلف، وربما علينا الانتباه إلى ما ترغب أن تؤسس عليه: "وهو خلق حالة حوار بين المتناقضات".
وربما يكتفي المؤلف التجريبيّ بكونه متتبع الأثر الذي يراقب أثر الوجود على الكائنات، فتستلزم القراءة الانطلاق من نقطة مضادة للمكتوب. فلا ترفع الكلمات بنيانًا بقدر ما تحفر هاوية، إنّها اللغة التي تعمل ضدّ ذاتها، بحيث يتخفى الكثير في القليل.
نقرأ في شذرة أخرى: "القصة القصيرة: أن تخفيَ بقرة هولنديّة داخل قبّعة ساحر".
تتحقق في هذه المدونة السردية رؤية التجريب كمغامرة ومفهوم خاص ورحلة تختلف من كاتب إلى آخر، ومن كتابة إلى أخرى، وفلسفتها تبدأ من أرض مضادّة لما زعمت القصة عبر تاريخها أنها تتوخاه (الحقيقة والجمال). أليس هذا مبتغى الأدب الذي يزعم أنه يريد أن يمسك اللحظة الجميلة، وأن يكشف عن الحقيقة المستلبة؟
وهي تبدأ من أرض مرفوضة ومتجاهلة، وهذا ما يبرر الابتعاد قدر الإمكان عن المركز بكل أشكاله: "إن الحقيقة مبتغى الكتابة، لكن في النص التجريبيّ اللاّحقائق أهم حتمًا من الحقائق".
وفي هذا الإبحار، فإن القاص لا يركن إلى تقليد أو تاريخ، إنه مشاغب كما يتضح في الشذرة 58: "لقد كنت (أنا) من يمرق كلّ مساء فوق دراجة ناريّة نفّاثة، ويحطّم بحجر أصمّ زجاج نوافذ دار الإفتاء القصصيّ".
تتضمن "مقبرة الخردوات" دليلًا إرشاديًّا للسياحة في المخبر والحديقة الخلفيّة لهذه التجربة، إن سرّ الصنعة يذاع لمرة واحدة، ولا يمكن تقليده؛ فلكل تجربة أسرارها، ومن العبث أن نستعير تجربة الآخر، ونستنير بها. بل يتوجب علينا أن نمدّ جسورنا، والقاص هو حكيم المعادن الحكائيّة بامتياز والحارس الأمين لاعتدادها بصفاء قلبها ونفاذ بصيرتها.
تصبح القصة بموجب هذه الرؤية محميّة غرائبيّة، أتت من السير فوق طريق معبد بالأشواك، يسير فوقه قاص أشبه بالشامان الذي يخوض رحلته الروحيّة منفردًا. وتشكل هذه الشذرات المكتوبة على مدار 22 عامًا ملامح هذه المغامرة السرديّة التي تقوم على تقمص حيوات، وهيمنة الموت واكتشاف الخواء، وعلاقة المؤلف بالنص وارتباطه بالحياة.
سيعثر القارئ في هذه المقبرة على عظام النصوص قبل أن تكسى باللحم، حيث يقف النص على التخوم ويضبط العلاقة بين المتقابلات عبر تدميرها والكتابة التي لا تركن للكمال إنما تتقدم في أرض وعرة يصعب السير فوقها.




سرد مفتوح على المغايرة والصدفة واللاسببيّة وتعدد الاحتمالات وزوايا النظر. ما يجعل منها نصوصًا قابلة للتعديل بوجهات نظر جديدة إلى ما لانهاية؛ ومع كل قراءة يمكن تعديل الأسلوب والنتائج والنهايات، خلق مسارب ومسارات وهمية تحترم الطبيعة الفصاميّة للأشياء من حولنا.
السرد محاكاة العالم ومجاراة الاعتباطية الخلاقة للوجود والعبثية اللامسؤولة لمنطق الكائنات. وهو إضاءة وكينونة تتقدم باستمرار نحو مسارات حيّة بخلاف الحكاية... نقرأ في هذا السياق: "حينما تنحدر شموس السرد في اتجاه الأفول تكبر ظلال الحكايات". إن الحكاية مجرد شبح في غياب السرد الحقيقيّ الذي يمزق نسيج الأشياء والكون لاكتشافها من جديد.
وهنا تخوض الأشياء حوارًا لتكشف عن بعضها البعض، وتتداخل الاجناس والأنواع، يصبح فيها النص القصصي أرضًا للقاء الفنون والأساليب الفنيّة والصور البصرية والمراجع كافة.
والضرورة الجمالية لهذا التنوع والتجاور هي الكشف عن عمقها: "فلسفة عناق الأنهار وحدوس نباح الزجاج أثناء صهره بوصفها فعلا انتهاكيًّا داخل شعريّة المتخيّل، بالاعتماد على شروط تبالغيّة، وحيل فنيّة استضماريّة، أفضت إلى تخصيب القصة وحقن أوردتها بأمصال مدوّنات جديدة ذات قوانين إحالة مغايّرة" (الشذرة 241).
وبينما تقتصر القصة التقليدية على الإدهاش، فإنّ القصة التجريبيّة تتمرّد على المقاييس الجاهزة، وتخترق المتعارف عليه في تقاليد الكتابة لتوسيع المتخيل وأفق القراءة.
لكن هل يعني التجريب انقطاعًا عن الحياة أم مغامرة لاستطلاعها؟
يقدم المؤلف دليلًا توضيحيًّا للقارئ الذي قطع الطريق، لقد وصل إلى حيث يجب أن يعرف ما اختبره، لبناء الوعي الجمالي باللاّنهاية والنقص على دفعات.  فالكتابة هنا ليست حارسًا للغياب والنقص بحد ذاتهما، ولا تهدف عبر لعبة الظلال والمغايرة والمتضادات إلى ذلك فحسب، بل هي تغييب للمركز والعناية بالهامشي من الوجود. وهذا ما يتوضح في الشذرة 394 التي تبين حقيقة الفلسفة الجمالية لهذا النوع من الكتابة.
اثنتا عشرة مفكرة بعناوين مستقبلية هي جماع حدوس يوميّة لحظيّة ومستقبليّة، وتصميمات هندسيّة، وشطحات ميتافيزيقية، وعلوم كونية، ومهن دنيوية، وشخصيات مستقبلية، أو ماضية ومعطوبة في وجودها، تخرج إلى العلن من الأدراج السرية للكاتب؛ لتشرك القارئ في تأملات الكتابة والحياة في غابة بلا طريق واضح، بحيث يوارب الباب عن شساعة هذه الغابة/ المتاهة، وتتفتح بين القارئ وبين العوالم المتعددة قنوات اتصال. إنه الآن في الجانب اللامرئي من الأشياء، الجانب الذي تقدمه هذه الأنطولوجيا المصغّرة التي تمتد على ما يقارب ربع قرن لمساحات اعتبرناها فراغًا.
ويترك المؤلف لمن يأتي أن يكمل هذه المغامرة المشرَعة على نقصانها في كتابة بدأت من النقطة صفر؛ "حينما نستشعر فلسفيّا لا جدوى الكتابة وعبثيّة فكرة الخلود الأدبيّ، تبدأ عندنا الكتابة الحقيقيّة". وكلما تقدمنا في الكتاب اقتربنا من الخواء، تدمير لإيقاع الزمان والحياة والتوغل في أكثر دروب الحياة غربة ولا ألفة، في اللامكان واللازمان. تتحول الشذرات إلى تأملات ومواقف ولمحات وبذور نصوص في رحلة سفر نحو الذات "أطول سفر في حياتي، سفري كان من أجل الالتقاء بنفسي فقط".
وبذا تفتح هذه المغامرة مختبرها على اتساعه، ليدخل القارئ إلى النص كما يدخل مشغلًا، وعلى القارئ في هذا السير أن يحذر من الزجاج المهشم، والحفر المفتوحة، والفخاخ اللغوية والأسلوبية والدلالية التي يتلاعب بها المؤلف عمدًا، سنعثر على الحفر التي نقب داخلها، وعلى الإبر التي خاط فيها هيئات شخوصه، على الدباسة والمقص، وعلى آثار رجل العلبة في صانع الاختفاءات، وعلى دمى ممزقة ومهشمة، حيث التجهيز القصصي في الفراغ يبتغي بناء نصوصه فوق أعمدة العدم. فالقصة سؤال ميتافيزيقي في جوهره، وإن اتخذ هيئة حكاية غير ميتافيزيقية، وكل طريق نبتكره، وكل نص جديد ينتهي، وبمجرد أن تقع عليه الأنظار إلى متحف الجمال بوصفه كلاسيكيّا غير قابل للنقاش.
في هذه السيرة، التي هي سيرة ذاتية للتجريب للمؤلف وانشغاله في معمله، ثمة تجديد في إطار فن السيرة الذاتية، بحيث لا تحضر ذات السارد كما اعتدنا في هذا النوع من الكتابة، بل تتوارى خلف مشروعها. ربما لأن ذلك جزء من بنيان تفكير المؤلف في مغامرته التي تميل إلى تقويض كل مركز. فبعد أن يشيّد المؤلف بنيانه، وقبل وصوله للطابق الأخير، يعود لينبش في الأساسات. حيث يتوجب على السرد الكشف عن الفراغ في قلب الامتلاء، ليُظهر أن وراء الصفحة المكتوبة لا يوجد سوى الخواء، ربما لأن العالم كما بين إ. كالفينو: "لا يوجد إلا كحيلة، خدعة، التباس، تلفيق"...

*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.