أكتب هذه المقدمة، حاملا كتاب "ليل المعنى" للكاتب الصحافي جواد صيداوي الذي حاور الشاعر والمفكر والناقد والديبلوماسي الكبير الراحل صلاح ستيتية (1929- 2020) في عز الحرب اللبنانية ببيروت قبل أن يصدره في 1990 سنة توقفها عن دار الفارابي في حلة كلاسيكية بديعة ترقى إلى مستوى إبداع رجل عظيم ومثير للنقاش بحكم هويته الإبداعية، ومساره المهني والشخصي، وأفكاره الاستثنائية، كما تبين ذلك من خلال العنوان الفرعي لكتابه: "آراء في الشعر وفي الوجود".
عن هذا الكتاب الذي أهداني الراحل نسخة نادرة منه في بيته الريفي بالضاحية الغربية الخلابة "ترمبلي سور مولدر" يوم 25 سبتمبر/أيلول من عام 2015، أكتب مقالا ليس ككل المقالات. لماذا؟
لأن الرجل الذي قال عنه أدونيس مصيبا: "ستيتية يكتب اللغة العربية باللغة الفرنسية"، هو الرجل الذي عاش حياة جنونية على حد تعبيره، وهي الجنونية التي خلدها في كتاب مذكراته "إسراف" الذي وضع على غلافه صورة بارزة لفيروز بجانب صورته معبرا عن لبنان كبلد ليس ككل البلدان، وعن شاعر ليس ككل الشعراء، وعن ديبلوماسي ليس ككل الديبلوماسيين، وعن مطربة ليست ككل المطربات.
خصوصية مقالي تبرره كلمات الفقيد الذي أهداني كتاب مذكراته حول شاي شرقي أعده بنفسه: "إلى صديقي بوعلام رمضاني، تخليدا لعدة ساعات تفكير وتأمل قضيناها معا. مع كامل المودة". إنها الكلمات التي تثبت أن الراحل لم يمت فرنسيا كما يقول أهل البهتان والقشور والتسطيح، وتوقيعه باللغتين الفرنسية والعربية هو دليل انفتاح وأصالة عبر عنهما في كتاب "ليل المعنى" بشكل لم يسبقه إليه أحد عربيا. مبررا عنوان الكتاب- الذي استعنت به بطلبه ربحا للوقت وردا على أسئلتي الكثيرة التي شهدت عليها خمس ساعات تقريبا- قال لي الفقيد: "تحدثت عن "ليل المعنى" شارحا مفهومي للشعر في كتابي "الرامي الأعمى"، وهو العنوان المأخوذ من عبارة الموسيقار الكبير غوستاف مالر "لست سوى نابل بسهامه في الظلام". وقصد مالر بالليل ظلام الوجود ليل المعنى، والرامي هو الإنسان الذي يدرك أن جوهر الوجود وجوهر المعاني أمران غامضان يعجز العقل ورحاب القلب البشري عن التقطاهما بسهولة، وبفضل الشعراء والفنانين الكبار الخلاقين يمكن اصطياد أسرار جوهر الوجود والمعاني".
الشعر والشاعر بين التأمل والتفكير
الراحل ستيتية الذي توفي يوم التاسع عشر من الشهر الجاري بعد حياة خارقة شعريا ونقديا واجتماعيا وثقافيا، قضى أكثر من سبعين عاما يتأمل ويفكر في الشعر وفي الوجود قبل أن يجسدهما في دواوين بديعة "بغموض منير" ميز شعره الناتج عن فلسفة عميقة لمفهوم الشعر. وفي بيته الريفي الذي أنهى فيه حياته متصوفا قبالة بيت الكاتب الشهير بليز باسكال، رد على أسئلتي فرحا كصبي في صبيحة يوم عيد: "أعتقد أنني وفقت إبداعيا ولغويا وروحيا، لأنني تمكنت من العودة إلى ذاتي المرتبطة ارتباطا وثيقا بالحضور وبالمعاني، وبالمبنى وبالمخيلة الروحية والمعنوية، أي الحضارة العربية الإسلامية. الشاعر الألماني نوفاليس خير من تحدث عن ذلك في تحديده للشعر بقوله إنه: "بمثابة العودة إلى البيت"، والعودة إلى البيت تعني العودة إلى عالم ما قبل العالم أي قبل أن تتكثف معالم الحضارة والمعاني المستعارة التي تكون رابطة الإنسان بأخيه الإنسان، ورابطة الكلام بالمعنى، والشاعر الذي يسعى إلى نور المعنى يجد في اللغة عائقا، ويستطيع الشاعر تجاوز عقبة اللغة حتى وإن كان يعبر بلغته الأم من خلال سعيه إلى الجوهر والروح، وجسد الكلمة هو جسد شبه معدوم، ولكنه جسم مرتبط إلى حد ما بالفيزياء، وكما يقول إيف بونفوا: إن الكلام يحتاج إلى مادة".
استطرد ستيتية فيلسوف الشعر أو شاعر الفلسفة يقول في نفس الاتجاه: "في تقديري، يستطيع الشاعر الذي يتصادم مع لغته بمعناها المطلق، وكمبنى معترف به حضاريا كلسان تعبير، أن يتجاوز ذلك من خلال اللغة المطلقة الساعية إلى التعبير، ليخترق جدران اللسان، ولكي يبلغ صحراء البدايات كما جاء في كتاب "اللغة ليست عقلا" للمرحوم أحمد حاطوم عن الفرق بين اللغة والإنسان". ومعقبا على سؤالي الملاحظة: "شبهت حالتك الشعرية بالرجل الذي يتزوج امرأة أجنبية وينجح في إقناعها باعتناق نظرته إلى الحياة وإلى الأشياء. أليس كذلك؟"، رد الشاعر الديبلوماسي الأنيق واللطيف السابق وممثل لبنان في اليونسكو بباريس: "بلى... بلى، وقصدت بذلك حالتي التي مكنتني من العودة إلى هويتي الأصلية، ويحدث أن يعجز المبدع بفعل خطر التثاقف أو الاستلاب أن يخضع المتزوج لطغيان لغة الآخر بدلا من أن يخضع لغة الآخر لتوجهه الخاص".
ضمن نفس السياق المنهجي (وكما كان منتظرا) خصص جواد صيداوي حيزا معتبرا في كتابه الحواري "ليل المعنى" مع الراحل ستيتية لقضية الاغتراب المفترض عند كتابة الشاعر بلغة المستعمر القديم كما يلح على ذلك الكثيرون، وتوقف المحاور مطولا عند مثال مالك حداد، الشاعر الجزائري الكبير والصديق الذي زار الفقيد قبل أن يكسر قلمه ويتوقف عن الكتابة باللغة الفرنسية "خشية من خذل الشهداء"، على حد تعبير صديقه المبدع اللبناني الراحل ستيتية. ورغم أنه اعترف بحقيقة التحدي اللغوي الوجودي في حالة حداد، اتفق ستيتية مع محاوره حول فرضية إمكانية استمرار حداد في الكتابة باللغة الفرنسية دفاعا عن قيم وطنه وهويته ومشاعره كما فعل ستيتية الذي أحس بتمزق لغوي وهوياتي في بداية مشواره الشعري قبل أن يعود إلى جذور ذاته الحضارية الأصيلة والأصلية، وهو الأمر الذي فصل فيه لاحقا في باريس التي أصبح فيها شاعرا كونيا ارتبط إبداعيا بطفولة لبنانية قضاها في أسرة مسلمة سنية. وشخصيا أعتقد أن ستيتية يعد حالة خاصة وسطى بين مالك حداد الذي قال "لغتي منفاي" عن اللغة الفرنسية وكاتب ياسين، الكاتب الجزائري الكبير الآخر الذي اعتبر اللغة الفرنسية غنيمة حرب، وهو التعبير الذي نال اعجاب الراحل اللبناني الذي تفهم في الوقت نفسه تمزق مالك حداد صاحب "رصيف الزهور لا يجيب" المختلف فكريا ومزاجيا عن صاحب "نجمة" و"الرجل صاحب النعل المطاطي". وقال ستيتية هذا الكلام قبل ثلاثين عاما في بيروت مؤكدا عدم قدرته على القول إنه كان قد خرج يومها من حالة التمزق قبل أن يغدو شاعرا ذا أبعاد إنسانية، كما جاء في سؤال صيداوي. ورفعا لأي لبس أضاف مسهبا: "اللغة ليست بريئة وليست شيئا مجردا. فبعد نشأتي في بيئة عربية إسلامية، ودراستي الابتدائية والثانوية والجامعية في لبنان وفي فرنسا باللغة الفرنسية، أدركت أنه يتوجب عليّ أن أعود إلى اللغة الأم وما تحمله من معان ومن قيم رغم تقدم السن، وقد تحقق لي شيء من ذلك إلى حد ما".
يبدو أن الفقيد قد حقق لاحقا الوحدة الذاتية التي "إن هي لم تتحقق، تؤدي إلى ضياع الإنسان، وضياع جميع القيم والارتباطات الثقافية". فهل هي حالة عدد كبير من الكتاب العرب والمغاربيين الذين أتقنوا قولا وكتابة اللغة الفرنسية ولم يعودوا إلى اللغة الأم كما فعل ستيتية نفسه، حينما وقع كتابه لصاحب هذه السطور باللغة العربية أيضا بعد أن درس على يدي لوي ماسينيون وجاك بيرك وناقشهما ردا على أسئلة جواد الصيداوي الفكرية الثاقبة؟
سر الشعر يكمن في الطفولة
ستيتية قال لمحاوره إن "الطفولة هي المرحلة الأهم في تكوين الشاعر، وهي المرجع والوطن والقبر، والإبداع يرتبط بالإحساس والمخيلة قبل ارتباطه بالمنطق أو بتكوين العقل، والطفل منذ نعومة أظفاره، يتعامل مع الوجود من منطلق إحساسه، ومن منطلق الترجمة الخيالية لما تحمل إليه مشاعره، ولما تأتي به من خبرته العفوية للوجود". الثالوث الشعري الفرنسي الشهير في القرن التاسع عشر جيرار دو نرفال وشارل بودلير وأرثور رامبو يقولون بعبارات متقاربة على حد تعبيره بأن "انطلاق الإحساس الأول، بسحر العالم وبخطورته وبمأساويته، مرتبط بطفولة الشاعر". غياب الطفولة في الأدب العربي، وخاصة في الشعر الحديث، يعزوه الراحل إلى الاعتقاد بأن "الطفل كائن ناقص، وإلى الخجل من الكشف عن العقبات الأولى وعن القصر اللامع البراق"، وانتبه في تقديره إلى الطفل كل من بدر شاكر السياب وأدونيس. وستيتية الذي كتب الشعر في حدود العاشرة، وخجل مما كتبه "لأنه كان بعيدًا كل البعد عن ما اكتشفه من شعر لاحقا"، افتتن بالمعري وبالمتنبي وبالشنفرى، وترجم الكثير من الشعر العربي، مال أكثر إلى لافونتين، وفضله على فيكتور هوغو بسبب اللون الرمادي أو ما وراء الصفاء الطاهر الكاشف عن أعماق شعرية. وسوء بيداغوجيا التعليم في المدارس العربية بلبنان - أيام كان الراحل طفلا ومراهقا كما أكد المحاور صيداوي بحكم تجربته الطويلة في مجال التربية من خلال سؤال محرج - حقيقة تؤكد سياسة التشويه المقصود في نظره، وهو الأمر الذي ربطه بعدم فهم الراحل بيت المتنبي الشهير "الخيل والليل والبيداء تعرفني... والسيف والرمح والقرطاس والقلم"!
وثمة قضايا هامة أخرى ناقشها صيداوي مع الراحل ستيتية في كتابه الذي يبقى مرجعا ضروريا لمعرفة هويته الأدبية والفكرية رغم مرور ثلاثين عاما من تاريخ صدوره، وبروز عشرات من الشعراء لاحقا، والذين لم يسمع بهم الراحل، وربما لم يقرأ لهم مرة واحدة باللغة العربية. ولم يوفق معظم الشعراء العرب في التجديد في تقديره، ورغم مظاهر أشعارهم الثوروية، بدت معظمها مستعارة باستثناء عشرة على أكثر تقدير: "الغريب هذه الأيام أن معظم الشعر العربي الذي أقرأه يبدو لي وكأنه يصدر عن شاعر واحد". والشاعر الكبير في نظر الراحل "هو الذي ينجح في أن يجعل من إلهامه خطوة إلى الأمام، ومن خبرته خبرة مرتبطة بجوهر الإلهام، والإلهام يأتي من وعي الشاعر لأشياء كامنة في سر الإنسان، وإن كان ذلك مرتبطا بالفعل الباطني".
(يتبع)