}

في ذكرى رحيله: شكرًا غالب هلسا

حسين بن حمزة 19 ديسمبر 2023
استعادات في ذكرى رحيله: شكرًا غالب هلسا
غالب هلسا

لا أتذكر غالب هلسا حين تأتي ذكرى رحيله في الثامن عشر من كانون الأول/ ديسمبر فقط، بل أتذكره في أوقات أخرى أيضًا، وغالبًا ما يكون ذلك مترافقًا مع نوع من الأسى والخسارة لأنه، وإن جرى تقدير تجربته الروائية من قبل العديد من الكتاب والنقّاد، إلا أن اسمه ظل يثير إحساسًا مشوبًا بالمرارة بأنه لم يأخذ حقه، خصوصًا وأن أغلب المقالات والدراسات التي كُتبت عنه، بغرض مدح أعماله وإعادة الاعتبار إليه، إنما كتبت بعد رحيله، وشمل ذلك نشر أعماله الكاملة في بلده الأردن الذي ما كان ممكنًا أن يعود إليه إلا في كفن.

لستُ في صدد كتابة نقدية عن غالب هلسا، ولكن يبدو أنه لا يمكن لأي مقاربة أو استعادة له أن تتجنّب هذا الإحساس بمرارة ما، فهو، بالإضافة إلى جدية وحيوية وعمق وفرادة تجربته ككاتب ومترجم ومثقف، رحل مبكرًا أيضًا عن 57 عامًا. والحقيقة أن ما أنجزه نوعًا وكمًّا في عمر قصير نسبيًا كهذا يدعو إلى الدهشة. لقد كرّس غالب هلسا نفسه كليًا للكتابة والترجمة والقراءة، ووجد وقتًا للانتماء السياسي الذي تكفّل بطرده وتهجيره من بلده الأردن أولًا، ثم من مصر التي أقام فيها سنوات طويلة وكان واحدًا من جماعة "غاليري 68" التي ضمت أسماء مثل صنع الله إبراهيم وعبد الحكيم قاسم. ثم طُرد بعد ذلك من العراق الذي كان وجهته بعد الطرد من مصر، ثم من لبنان حيث كان محررًا وكاتبًا في صحف ومجلات المقاومة الفلسطينية، وحيث عاش حصار بيروت عام 1982، قبل أن يخرج، مع من أُخرجوا منها، ويختار دمشق التي لم يُطرد منها، ولكنه عاش فيها محرومًا من الثراء المجتمعي والمناخ الثقافي المفضّل لديه في مصر. كيف لا وقد دارت معظم رواياته فيها، إلى درجة أننا يمكن أن نعدّ تجربته الروائية جزءًا أساسيًا من تجربة جيل الستينيات ورواية ما بعد نجيب محفوظ في الأدب المصري الحديث. لقد كان ذلك أشبه بالفردوس المفقود بالنسبة له، وهو فقدٌ يمكن معاينته في الحياة الرتيبة والكآبة التي رافقته في سنواته الأخيرة، التي عاش فيها وحدة مضاعفة بكونه وحيدًا على المستوى الشخصي أيضًا، وقيل وقتها أنه فكر بالزواج كنوع من الحل الجزئي، ولكنه توفي – في النهاية – وحيدًا فعلًا.

فكرة الفردوس المفقود ستظهر بأفضل تجلياتها في روايته ما قبل الأخيرة "سلطانة" (1987) التي عاد فيها إلى طفولته ونشأته في قريته الأردنية "ماعين". كان ذلك نوعًا من عودة أيضًا إلى الحضن الأول، بعدما فقد الحضن المصري المُكتسب. وكانت تلك الرواية هي المرة الأولى التي يعود فيها، سرديًا وروحيًا، إلى الأردن وإلى أمكنته الأولى، بعدما كان قد أنجز قصصًا قصيرة من بيئته الأردنية في مجموعته القصصية الأولى "وديع والقديسة ميلادة وآخرون". الفارق هنا أن الرواية لم تكن فقط حدثًا جغرافيًا وسرديًا، بل كانت خلاصة فن غالب هلسا الروائي، وعصارة تجربته السردية كلها. وليس مستغربًا أن الكثيرين اعتبروها كذلك. لقد عاد فيها إلى الرحم الأول، إلى طمأنينة الطفولة، وإلى قراءاته الأولى وتكوينه الأول. لا يمكن لأي قارئ أن ينجو من تلك العذوبة الآسرة التي جعلها غالب هلسا تسري في روايته، ولا أن ينجو من طريقته الذكية والمدهشة في مقاربة الزمن والتاريخ والمجتمع والشخصيات فيها. شخصيات مثل "آمنة" و"سلطانة" و"أميرة" ستتحول إلى أيقونات سردية لا في تجربة غالب هلسا وحدها بل في ذاكرة قرائه وقراء الروايات الجيدة عمومًا.

رواية "سلطانة" كانت مناسبة لقائي الثاني بغالب هلسا في مدينة حلب أثناء دراستي الجامعية فيها، فقد دُعي بعد صدور الرواية إلى واحدة من الجلسات الثقافية التي كانت تنعقد دوريًا في أحد البيوت بعيدًا عن الجهات الرسمية، وكان يُديرها الناقد عبد الرزاق عيد. لا أزال أتذكر حين جاء دوري في الكلام، أني أشرت إلى أن بطلات رواياته ليس لهنّ آباء، بمعنى أن حريتهن الحياتية والسردية تأتي من غياب الأب وغياب السلطة الذكورية. تحدثتُ عن بطلته "سلطانة" نفسها، وعن "أميرة" وتشابههما مع بطلات رواياته السابقة وخصوصًا "نادية" في روايته الأولى "الضحك". لا أزال أتذكر ردة فعل غالب هلسا الذي اقترب مني بعد نهاية الجلسة، وأراد أن يعرف اسمي، وشكرني قائلًا إنها أول مرة يسمع فيها هذه الملاحظة النقدية المهمة، وأنه سعيد بها. وبعد فترة قصيرة، صادف أني وجدت حوارًا معه منشورًا في مجلة "الموقف الأدبي"، وما كان ممكنًا وقتها، ولا اليوم، وصف الامتنان الذي شعرت به، وهو يستعيد ملاحظتي في حواره، ويذكر معها اسمي أيضًا... أنا ذلك الطالب الجامعي الضئيل والقارئ الشاب الذي لم يكن قد نشر كتابًا بعد.


"سلطانة" إذًا كانت مناسبة لقائي الثاني بغالب هلسا، ولكن اللقاء الأول كان قد حدث قبل ذلك بعدة سنوات، حين كنت لا أزال طالبًا في المرحلة الثانوية في المدينة الصغيرة والنائية عن العاصمة التي قُيّض لها أن تكون مسقطًا للرأس. هناك كنت مواظبًا على استعارة ما أقرأه من المكتبة العامة في "المركز الثقافي". إلى تلك المكتبة كانت تصل نسخٌ من الكتب ذاتها التي يمكن أن تجدها في سلسلة المراكز الثقافية المنتشرة في دمشق والمدن الكبرى أيضًا. على الرفوف المعدنية المغبرّة لمكتبة المركز الذي كنت أتردّد عليه بشكل أسبوعي تقريبًا، لإعادة ما استعرتُه وأخذ كتب جديدة. على واحد من تلك الرفوف التي خُصصت للروايات والقصص، كنتُ أتعثر بعنوان رواية اسمها "الضّحك". كنتُ أستغرب أن تكون مفردة مثل "الضحك" عنوانًا لرواية. كان العنوان الذي يُفترض أن تصنع غرابتُه جاذبيةً ما للقارئ يُؤجل فكرة قراءة الرواية، بل يُبعدها ويطردها أيضًا. وكانت كنية المؤلف الغريبة أيضًا (هلسا) تُعزّز هذا التأجيل وتقتل فكرة القراءة من أساسها. لا أتذكر الآن إن كنت تجرأتُ وقررتُ أن أستعير الرواية ذات الغلاف الرصاصي الباهت لأتخلص من تعثّري المستمر بعنوانها وباسم صاحبها، أم أنني راهنتُ على أن العنوان الغريب للرواية ربما يحمل مفاجأة سارّة في صفحاتها التي كانت كثيرة ومن القطع الكبير، أم أنني أنهيت قراءات الروايات التي كانت موجودة في الرف المخصص لها، ولم تبقَ سوى رواية غالب هلسا لكي أقرأها كتحصيل حاصل.

قرأت الرواية أخيرًا، وكان انطباعي الأول والفوري هو أن عليّ أن أقرأ أعماله كلها. وهكذا بحثت عن رواياته واشتريتها. قرأت "السؤال" و"الخماسين" و"البكاء على الأطلال"، ثم قرأت ترجماته وخصوصًا رواية "الحارس في حقل الشوفان" لسالنجر، و"جماليات المكان" لغاستون باشلار. وعرفت مع الوقت أن غالب هلسا ينتمي إلى نوع نادر، وصار أشد ندرة، من الكُتّاب. وهو أن يكون الكاتب مثقفًا وموسوعيًا وقارئًا جيدًا وناقدًا ذكيًا ومناضلًا ومشاركًا في الشأن العام، بل – وفي تجربة غالب – أن يكون مع المحاصرين والمقاتلين على خطوط النار، كما حصل في حصار بيروت.

أكتب الآن والطبعة الأولى من رواية "سلطانة" بجانبي بالقرب من اللابتوب، الرواية التي اقتنيتها في سورية، وظلت في مكتبتي سنوات طويلة في بيروت، ثم كانت مع روايته "ثلاثة وجوه لبغداد" ضمن الرزمة القليلة من الكتب التي كان عليّ أخذها معي في هجرتي إلى ألمانيا.

أتأمل غلاف الرواية وألمس صفحاتها، وأستعيد فكرة باقية في بالي، وهي أن معظم أعمال غالب هلسا طبعت لدى دور نشر فقيرة وبسيطة، وعلى ورق رخيص وعادي جدًا وبإخراج سيء للصفحات والحروف، بل إن صديقًا وشاعرًا قالي لي ذات يوم إن بعض هذه الدور ربما كانت أسماء وهمية، أو أنها لم تطبع سوى عدد محدود من الكتب واختفت. ثم أضاف ساخرًا أنه ربما لم تطبع إحدى هذه الدور سوى كتاب غالب وحده.

لقد كانت أعمال غالب هلسا مثله هو شخصيًا، مقيمة على حواف وهوامش عالم النشر، مثلما عاش هو على حواف وهوامش المجتمعات التي عاش فيها. وبالرغم من أنه نجح في جعل نتاجاته في قلب ومتن المشهد الثقافي حيثما عاش، وبالرغم من أن الهامش نفسه منحه ميزة أن يرى بعين الغريب، ومنحتُه "أجنبيّته" فرصة ثمينة أن يكتب عن المتن بعين المراقب من الخارج أيضًا، إلا أن الطرق والتقنيات الهامشية والبسيطة التي نُشرت بها تلك النتاجات لا تمحو مرارة أخرى تُضاف إلى مرارة كونه عاش هامشيًا ومنفيًا ومطرودًا.

كان غالب هلسا من ذلك النوع النادر من الكُتّاب الذين ما أن تقرأ رواية لهم حتى تبدأ بالبحث عن أعماله الأخرى، وتبدأ تهمك ليس فقط كتاباته بل حياته الشخصية ومقالاته وآراؤه أيضًا، ويصبح بطريقة ما صديقًا مقربًا من دون لقاءات دائمة أو معرفة شخصية عميقة. إنها صداقة تصنعها الكلمات التي تعرف كيف تترك أثرًا لا يُمحى، ويصنعها الأسلوب المتفرّد الذي تُكتب به هذه الكلمات سواء داخل قصة أو داخل رواية أو في سياق مقالة أو حوار صحافي. بهذه الطريقة كان غالب قريبًا وملهمًا ويمكن الكلام عنه باستخدام اسمه الأول كما لو أنه رفيق طفولة أو صديق من أيام الدراسة.
كقارئ لديّ دومًا ذلك الإحساس بأن لغالب هلسا دينًا شخصيًا عليّ. بعد رحيله جُمعت عدة مقالات له تدور حول تأثره ببعض الكتّاب الذين عرفهم وقرأ لهم، وصدرت في كتاب حمل عنوان "أدباء علّموني... أدباء عرفتهم". وربما كل المقصود من استعادتي لذكراه الآن، هو أن أقول: أنني عرفتُ غالب هلسا، وأنه علّمني!.  أن أقول له: شكرًا غالب هلسا!.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.