}

نظرة استعادية إلى يوسف شلحت عالِمَ اجتماعٍ وأنثروبولوجيًّا مبرِّزًا

جورج كعدي جورج كعدي 27 مارس 2023
استعادات نظرة استعادية إلى يوسف شلحت عالِمَ اجتماعٍ وأنثروبولوجيًّا مبرِّزًا
يوسف شلحت وباكورة أبحاثه "علم الاجتماع الدينيّ" (1946)


لم أكن أعرف عن الدكتور يوسف شلحت ومؤلّفاته القيّمة (وضع معظمها بالفرنسيّة وتُرجمت إلى العربيّة) حتّى وقعتُ بالمصادفة على أحد مؤلّفاته المبهرة تحت عنوان "نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني (الطوطميّة – اليهوديّة – النصرانيّة - الإسلام)" الذي كان أصدره عام 1946 تحت عنوان "علم الاجتماع الدينيّ"، وبعد سبعة وخمسين عامًا قدّم له وحقّقه الدكتور خليل أحمد خليل تحت العنوان المختلف المذكور أعلاه والذي صدرت طبعته الأولى لدى "دار الفارابي" في بيروت عام 2003، أي قبل عقدين من الزمن. مع الإشارة الضروريّة هنا إلى أنّ الدكتور خليل، الاسم المعروف أكاديميًّا ومؤلّف نحو خمسة وستين كتابًا ومعرّب نحو سبعين كتابًا في حقول معرفيّة وفكريّة شتى في الفلسفة والأدب والسياسة وعلم الاجتماع، هو أيضًا من خرّيجي الجامعات الفرنسية الكبرى، مثل الدكتور شلحت (1919 - 1994) الذي اهتمّ دكتور خليل كثيرًا بفكره ومؤلّفاته حتى أنّه وصفه بـ"ابن خلدون النصف الثاني من القرن العشرين" وعرّب ثلاثة من كتبه: "بُنى المقدّس عند العرب قبل الإسلام وبعده" و"مدخل إلى علم اجتماع الإسلام من الأرواحيّة إلى الشموليّة" و"الأضاحي عند العرب: أبحاث حول تطوّر شعائر الأضاحي: طبيعتها ووظيفتها في غرب الجزيرة العربية".

من الضروريّ لمِنْ لا يعرف الدكتور يوسف شلحت، مثلما كانت حالي قبل اكتشاف أهميته وموقعه ومؤلّفاته، إعادة التذكير بمِنْ يكون هذا المفكّر العربيّ المجليّ المولود في حلب من أسرة مسيحيّة والذي تلقّى دروسه في سورية واكتسب الثقافة الفرنسية وأتقن لغتها، ومع نهاية الحرب العالمية الثانية سافر إلى باريس حيث التحق بجامعة السوربون لمتابعة تخصصه في علم الاجتماع ونال الدكتوراه عن أطروحته "الأضاحي عند العرب" (Le sacrifice chez les arabes) تحت إشراف الأنثروبولوجيّ الفرنسي مارسيل غريول̸ Griaule، كما اختير ضمن فريق كلود ليفي ستروسّ  Strauss فعمل مع هذا العَلَم المشهور في الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا في "المركز الوطني للبحوث العلمية" (C.N.R.S) في باريس، ومع المستشرق الفرنسي وعالم الاجتماع جاك بيرك̸ Berque والمستشرق اليهوديّ اللامع، الماركسيّ والمناهض للصهيونية، مكسيم رودنسون ̸ Rodinson.

من مؤلفات يوسف شلحت  


تميّز يوسف شلحت، الدارس على كبار أعلام عِلمَيْ الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، بموضوعيته ونزاهته في معالجة التاريخ الإسلاميّ وقضايا الإسلام بمنهجيّة سوسيولوجيّة، فكانت باكورة أبحاثه "علم الاجتماع الدينيّ" (الأوحد الذي وضعه بالعربية لغته الأم) عام 1946، والذي أشرنا إليه آنفًا، فأسّس هذا المؤلَّف لمعظم أبحاثه اللاحقة التي وضعها بالفرنسيّة وترجمها الدكتور خليل أحمد خليل وقدّمها متأثّرًا بفكره، مقدِّرًا. كما حقّق د. شلحت مخطوط المؤرّخ السوريّ فتح الله الصايغ "رحلة فتح الله الصايغ الحلبي إلى بادية الشام وصحارى العراق والعجم والجزيرة العربية" (منشورات دار طلاس، 1991) ونقل الكتاب إلى الفرنسية في العام نفسه. ولدكتور شلحت مقالات عديدة في مجلّات علميّة مثل "Studia" و"Arabica Islamica" و"L'Homme".

راهن شلحت على الانتقال بالفكر السوسيولوجيّ العربيّ من الأدب الخياليّ إلى الكناية الفكرية العلميّة، أي دراسة الدين والمقدّس ضمن المنهج السوسيولوجيّ، وفي إطار غير – أيديولوجيّ (A - ideologique)، ساعيًا إلى تبيان الموقع الاجتماعيّ للأديان، ودارسًا الدين كظاهرة سلوك اجتماعيّ في نظام المجتمع وأثره وتأثيره حتى في السياسة والأداء الاقتصادي والهوية الثقافية. ففي "بنى المقدّس عند العرب" (191 صفحة موزّعة على تمهيد ومدخل وسبعة فصول وخواتم) درس شلحت البيئة المكّية ما قبل الهجرة، مظهرًا أنّ الإسلام هو الخلاصة المنطقيّة والضروريّة للحالة الدينيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة التي عرفتها الجزيرة العربيّة الغربيّة أواخر القرن السادس، معتبرًا أن التصوّر الإسلاميّ للمقدّس يعكس تصوّر بيئته العربيّة، على الرغم من عالميّة عقيدته وشمولها، فالواقع يطبع الأسس العميقة للإسلام. ويطرح سؤالًا: ما هي تلك البنى العميقة للإسلام التي استلهمها وتحكّمت بتطوّره؟ ويحاول استخلاص السمات الأصليّة الخاصة بالنظام الخاضع للدراسة، والتي تكفل إبراز علاقاته بالبنى الاجتماعيّة – الجغرافيّة لنمط مجتمعيّ معيّن. لا يرمي شلحت إلى قراءة المقدّس العربيّ الإسلاميّ بعين المقدّس الإسلاميّ أو المسيحيّ، فتلك المقدّسات وإن ظهرت في مهد ساميّ مشترك، إلاّ أنّها لا تفسّر بعضها، بل تعثر على تفسيرها الأعمق في البنى الاجتماعية التي تقبّلتها واستوعبتها.

راهن شلحت على الانتقال بالفكر السوسيولوجيّ العربيّ من الأدب الخياليّ إلى الكناية الفكرية العلميّة، أي دراسة الدين والمقدّس ضمن المنهج السوسيولوجيّ، وفي إطار غير
أيديولوجيّ

أمّا مؤلَّفه "مدخل إلى علم اجتماع الإسلام" الذي حمّله فصولًا ستّة تحت عناوين: البيئة، البدو والحضر، قيامة المدينة، هيمنة القرشيين والدين القومي، انحطاط الدين وانتصار الشخص، الإسلام ومعنى المقدّس ... (فضلًا عن الخلاصة والخواتيم والمقدّمة القيّمة للدكتور خليل) فيرى شلحت فيه أنّ بنية البيئة العربية هي مفتاح التفسير السوسيولوجيّ للتاريخ، فالسببيّة الاجتماعيّة تجعل تاريخ الحوادث مفهومًا على نحو عقلانيّ وتسويغاتها التاريخيّة كافة، ومنها أنّ البيئة العربية كانت عشيّة الإسلام بيئة صراع لأجل الحياة، وأنّ الإسلام كأيديولوجيا جديدة، بل كـ"مَأْلَفَة" أديان، تعبّر في جوهرها الاجتماعيّ التاريخيّ عن توحّدات داخليّة مكّنت العرب من تحقيق قوميّة الأقوام العربيّة. يعتبر شلحت أنّ العقليّة العربيّة تنطوي على راسب بدويّ ̸ حضريّ معقّد ومستمرّ في تكوين شخصية العربيّ. هذا النسيج الازدواجيّ للشخصية العربيّة نجده مبرمجًا في علاقة المجتمع بالسلطة التي ينتجها: السلطة المفردنة، الدنيويّة، قبل الإسلام... والسلطة الجماعيّة، المقدّسة، مع الإسلام. ويرى أنّ من الجَدّ المتنقّل في قلوب محبّيه الرحّل، إلى الجدّ المستقرّ في ضريح أو معبد (وثن – صنم) مرورًا بالتبادل الاجتماعيّ – الاقتصاديّ، أضحت المدينة العربية نفسها مقدّسة بثلاثة معانٍ: معنى الحمى والحماية، معنى الحرم، ومعنى السيادة. أضف أن وجه الشخص كان رمز شخصيته. ومع طقس المؤاخاة أو الإخاء بين العرب، بالمؤاكلة أو بالمؤادبة، ولدت علاقة مقدّسة بين العرب وانتظم الكائن المقدّس في نظام المعاني العربيّة المقدّسة، قبل ربطها بالقدسيّ الأرفع.

إلى كتاب "الأضاحي عند العرب: أبحاث حول تطوّر شعائر الأضاحي، طبيعتها ووظيفتها في غرب الجزيرة العربية"، وهو آخر ما عُرّب من مؤلفات يوسف شلحت الذي يعود من الإسلام إلى الجاهلية المتأخرة، محدّدًا عرب الحجاز مهد الإسلام، ومصنّفًا الأضاحي على تنوّعها واختلافها بين أضاحٍ دامية وغير دامية: قربانيّة ̸ إيلافيّة، تكفيريّة، سلبية وإيجابية، ذاتيّة وموضوعيّة، دوريّة وافتراضية، تبعًا لطبيعتها. ويقارن أيضًا بين الطقوس الدينيّة التي تبنّاها العربيّ الجاهليّ والقواعد الإصلاحية الجديدة التي أرساها الإسلام، سواء في شعائر الحجّ والعمرة، أو في قضايا تعبدّية أخرى منع نبيّ الإسلام جزءًا كبيرًا منها وأضفى على بعضها بعدًا روحيًا ورمزيًّا إيمانيًّا.

اختير شلحت ضمن فريق كلود ليفي ستروسّ (يمين)  فعمل معه في باريس، ومع المستشرق الفرنسي جاك بيرك  (وسط) والمستشرق اليهوديّ المناهض للصهيونية، مكسيم رودنسون (يسار)


إهداء عميق، ملفت، يستهلّ به الدكتور شلحت كتابه فائق الغنى والشمول وجاذبيّة محاور البحث "نحو نظريّة جديدة في علم الاجتماع الديني": "إلى كلّ أديب حرّ التفكير، يهوى الحقيقة الخالصة، ويضحّي على مذبحها بالتقاليد، أزفّ هذا الكتاب". ولتحفيز القارئ على هذا الكتاب (المتوافر في أي حال أونلاين لمن يرغب في الاستزادة المعرفيّة) أعدّد عناوين محتوياته: مدخل إلى علم اجتماع الأديان بقلم الدكتور خليل أحمد خليل مقدّمًا، وتحت عنوان "توطئة: من علم الاجتماع إلى علم اجتماع الأديان" هذه العناوين الفرعية: الإكراه الاجتماعي، الأحداث الاجتماعية، الشعور المشترك، مادية الحدث الاجتماعي، التجربة في علم الاجتماع، الديانة في علم الاجتماع، الجماعات البدائية في علم الاجتماع. إلى الفصل الأول: تعريف الديانة، ويندرج فيه موضوعان: الحلال والحرام، السحر والدين. والفصل الثاني: ما هو قوام الديانة؟ ونقرأ فيه عن: المعبد والقبر، المانا، النفس، العقائد، العقيدة وقوانين تطوّرها، الصلاة الذبيحة، الأساطير. والفصل الثالث: النظريات المفسرة للديانة، وفيه: النظرية الروحية: تيلور، النظرية الطبيعية: ماكس مولير، نظرية نيتشه، نظرية برغسون، نظرية رينان. الفصل الرابع: الطوطمية، وفيه: ما هو الطوطم؟ طوطم القبيلة، الزواج الخارجي، قوانين الطوطمية، نظرية هربرت سبنسر، نظريات فرازر، نظرية فرويد، نظرية إميل دوركهايم، نظرية لوروا. الفصل الخامس: نحو نظرية جديدة، وفيه: العاطفة الدينية، الطفل والدين، المنطقية البدائية، البشرية الأولى، الطوطمية، الزواج الخارجي، النفس. الفصل السادس: فصل السلطة عن الدين، وفيه: نظام البوتلتش، السلطة المدنية والسلطة الدينية، العوامل المؤثرة في الديانة. الفصل السابع: أثر الديانة في الحياة، وفيه: الدين والأصول الفلسفية، الدين والأخلاق، الدين والفن. الفصل الثامن (الأخير): قوانين التطوّر الديني، وفيه: رقيّ الديانة وتقهقرها، قوانين التوحيد الديني، قانون الاتساع الديني، قانون الانتقال من العام إلى الخاص، قانون الانتقال إلى الروحانيات، القوانين في علم الاجتماع. أمّا تحت عنوان "الخلاصة: مستقبل الديانات" فنقرأ: الدين والمبادئ الاجتماعية، الفلسفة والدين، الدين الحقيقي، ديانة الإنسانية.

يقول الدكتور خليل أحمد خليل في تقديمه لكتاب "نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني": " منذ أربعينات القرن العشرين، تجاسر يوسف باسيل شلحت (حلب، 1917 – باريس 1997) على درس القدسيّ والمقدّس، ممعنًا في تحرّي مقوّمات علم اجتماع الأديان، اللانبوية والنبوية، مفترضًا أنّها ليست فوق الدرس والتحليل والنقد، بل هي على غرار كل الظواهر المجتمعية الأخرى. وهذا يعني إرجاع الخيال الديني إلى الخيال الاجتماعي، وتاليًا وضع مرجعيات الأديان في عالمنا ومجتمعاتنا، لا في أي مكان آخر (...) وليس قليلًا أن يبادر شلحت، سنة 1946، إلى نشر كتابه هذا (علم الاجتماع الديني) بالعربية، ولكنّ ستارًا أو حجابًا هائلًا من الصمت أُسْدِل على هذا الكتاب، الذي أسّس لمعظم أبحاث شلحت التالية (...)".

كلام د. خليل ذو إشارات جوهريّة، أولاها التأكيد (والإشادة) على ريادة د. شلحت في هذا الميدان البحثي السوسيولوجيّ، إذ لم يسبقه أحد إلى معالجة هذا الموضوع الدقيق (الدين والمقدّس)، وهذا جانب أكاديميّ فريد ومهمّ. ثاني الإشارات هي جرأة د. شلحت على إخضاع هذا "المقدّس" للسوسيولوجيا، أسوةً بأيّ موضوع آخر قابل للبحث. الإشارة الثالثة، بالغة الأهميّة، هي أنّ د. شلحت تجرّأ حيث لم يجرؤ آخرون في ذاك الزمن، وحتّى في أزمنة لاحقة (نتذكر جميعًا ما تعرّض له المفكر والباحث الأكاديمي نصر حامد أبو زيد من تكفير ومضايقة في تأويله النصّ القرآني بمؤلفات عديدة). لافتًا إلى الستار الهائل من الصمت الذي اُسدل على مؤلفات د. شلحت.

نحن مع أمام نظرية جديدة في علم الاجتماع الدينيّ قوامها المرجعيّ العلميّ أن يُدرس الدين عبر التطوّر التاريخيّ للمجتمعات المتديّنة، باعتباره ظاهرة حيّة متواصلة من خلال الجمهور، كسلالة اعتقاديّة، موصولة بثقافة المجتمع

يوضح د. خليل أنّ ثمة في كل الأديان التي درسها د. شِلحت، من الطوطميّة إلى اليهودية والنصرانيّة وحتى الإسلام، سلكًا مشتركًا بينها هو سلك الطهارة الذي يجعل المتديّنين (أي المتطهّرين) والدينيّين (إخوة) في جماعة منتشرة، بنظام أو بغير نظام، معتبرًا أنّه لطالما ساد الخلط بين السحر والدين، بين الساحر والكاهن، قبل الأديان المتعالية على الطوطميّة، ولكنّنا نلاحظ من خلال التطوّر التاريخي للمجتمعات المدروسة، أنّ الديانات العليا (التوحيدية، مثلًا) ورثت شيئًا من سلالة الطوطميّات، وتجاوزتها في آن واحد، إلى نظرية جديدة في تطهير المجتمع الدينيّ، مؤكدًا على أنّ الدينيّ مهما شاع بين الجمهور المؤمن، يبقى جزءًا محدودًا في نظام المجتمع، وإن سعى رجال دين، في منعطفات تاريخية معينة، إلى تغليب الجزء الاعتقاديّ على الكلّ الاجتماعيّ، وذلك بحجّة أن المقدّس (مطلق) وأنّ المدنّس (نسبيّ). فالعكس هو الصحيح سوسيولوجيًّا. وبالتالي، نحن مع د. شلحت، أمام نظرية جديدة في علم الاجتماع الدينيّ قوامها المرجعيّ العلميّ أن يُدرس الدين عبر التطوّر التاريخيّ للمجتمعات المتديّنة، باعتباره ظاهرة حيّة متواصلة من خلال الجمهور، كسلالة اعتقاديّة، موصولة بثقافة المجتمع وعلومه وحضارته. فقبل ذلك، كان يُقدّم الدين كظاهرة قدسيّة متعالية على كل اجتماع بشريّ وغير ملازمة ولا محايثة للمجتمع نفسه. وكان عنوان تلك المرحلة: القطع (بالوحي، مثلًا) والمفاجأة (بفصل المتنزّل عن المنزلة، وحتى عن المنزول نفسه). أمّا مرحلة علم الاجتماع الدينيّ فعنوانها: درس الدينيّ من خلال مسارات التطوّر الاجتماعيّ نفسه.

يتساءل د. شلحت: ما هو مستقبل الديانات؟ نافيًا ما ذهب إليه مفكرون، من القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، أن ينتهي الدين كعقيدة، ونافيًا بالتالي أن يكون الإلحاد أو التلحيد بديلًا من التوحيد أو التديّن. ونحن، بالنسبة إليه، أمام ظواهر متداخلة، متعايشة، متصارعة. ويدرس علم الاجتماع ما يحدث، وقد يتوقّع بمنطق السببيّة الاجتماعيّة ما هو ممكن الحدوث، لكنّه لا يدّعي التنبؤ الذي يدخل في باب الأيديولوجيّات الطوباويّة. ويرى د. خليل أن هذا المؤلَّف يقدّم إلينا نظريّة جديدة في منهج البحث السوسيولوجيّ لدرس المقدّس الدينيّ، ويفتح فضاء الحوار حول ظاهرة ملتبسة، مسكوت عنها، وبلا معنى. يقدّم شلحت معنى آخر للنظام الاجتماعيّ الديني، مبرزًا إمكان المعرفة العلميّة لظاهرة ينفي عنها مشيّعوها إمكان درسها.

ببيان وبلاغة أدبيين جميلين كتب د. شلحت استهلالًا بديعًا خطّه بالعربيّة (التي أجادها بقدر ما أجاد الفرنسية) في حلب عام 1944، فيمتعنا بـ" قُلْ ما شئتَ من خير في الأدب العربي الحديث، وسمّه كيف شئت. فهو أدب عالميّ، وهو أدب حي. وإنّك لتجد فيه شعرًا غزير المادة وخيالًا خصبًا في عنفه ولطفه. وإنك لتجد فيه قصصًا جذابة، صادقة الإحساس جميلة التصوير... ولك أن تطلق على ثقافتنا ما يروقك من النعوت. ولكَ أن تحلّي جيدها بما يعجبك من جميل الألقاب. فإنك لتقرأ فيها من الانتقاد دقيقَه وتصيب من الفن جليلَه... لكَ كل ما تشاء. ولكن، ناشدتك المولى، لا تنعت أدبنا بالفكريّ، ولا ثقافتنا بالعلميّة، لأنّك لا تجد في أدبنا تفكيرًا بحتًا، ولا في ثقافتنا علمًا صرفًا. ولستَ بهاضم لحقوقهما إذا قلت إنّ أضعف ما فيهما التفكير، وأقوى ما فيهما الخيال. أرمني بالتطرّف إذا شئت، أو بالمغالاة إذا أعجبك اللفظ، فأنا أقول كلمتي وأنت وشأنك فيما تفكر وتقول. ولعلّك أن تغضب لأدبنا، ونِعْمَ الغضب! ولعلّك أن تسعى في سدّ هذه الثلمة من ثقافتنا، وهذا ما أرغب في ان أحثّك عليه. بل إنّ القارئ المتعطّش إلى الثقافة التامة قد يجد، في الإنتاج العربي الضخم، من الفلسفة قليلًا، ومن العلوم طَرَفًا، ولكنّه قد لا يفوز بشيء من الفلسفة الاجتماعية، وقد لا يظفر ببحثٍ شافٍ في علم الاجتماع، فهما أندر من الدينار في محفظة الأديب. أليس من العجب أن تبقى الاجتماعيات ضعيفة الجانب، مخفوضة الشأن عندنا، على ما لها من علوّ المنزلة عند الغربيين؟ أليس من دواعي الاستغراب ألاّ نجد في هذه النهضة الحديثة سلسلة من المؤلفات تبحث عن مواضيع علم الاجتماع؟ أهي العقليّة الشرقيّة الخياليّة تضيق بأمثال هذه الأبحاث؟ أم هي الحياة الاجتماعية تمنع عنّا سبل التفكير الحرّ؟ أم هو كسلٌ في أدبائنا يُقعدهم عن الرغبة في صعاب الأمور وجسامها؟ (...) إلا بأن نجاريهم في شتّى حلبات الفكر".

خليل أحمد خليل: تجاسر شلحت على درس القدسيّ والمقدّس، ممعنًا في تحرّي مقوّمات علم اجتماع الأديان، اللانبوية والنبوية، مفترضًا أنّها ليست فوق الدرس والتحليل والنقد، بل هي على غرار كل الظواهر المجتمعية الأخرى


إنّ غايتي من هذه النظرة الاستعادية لفكر الدكتور يوسف شلحت وإرثه البحثيّ هي التذكير بعَلَمٍ فكريّ قد يكون منسيًّا، خاصةً لدى أجيال من الباحثين والقرّاء العرب الشبّان. واستندت إلى رأي المفكّر الجليل الدكتور خليل أحمد خليل في د. شلحت وتقديره العالي جدًا له، فهو الأجدر في شرح رفعة المكانة التي يحتلّها هذا الأخير في الرصانة الأكاديمية والقيمة البحثيّة عربيًّا. وكم أثلجت صدري وناغشت فكري وقلبي الكلمات التي ختم بها د. شلحت مؤلّفه القيّم جدًا والرائع "نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني". فشاركوني متعة وروعة ما قرأتُ: "(...) غير أنّ هذا الإله الذي أوجده التفكير الحرّ تعجز عامّة الناس عن السموّ إليه والإقرار به، لأنّ إله الفلاسفة هو نتيجة تفكير قويّ أدّى إلى حقيقة ثابتة في نظرهم، أمّا رجل الشعب، فإنّ الشكوك تتنازع نفسه في حقيقة إلهه، فيلجأ إلى الإيمان، وما الإيمان إلاّ إقرار صريح بعجز الإنسان عن الإحاطة بموضوع تفكيره وتفهّم كيانه (...) وبعد، فما الديانة إلاّ هدف مشترك، ومسعى تسعى الجماعة في الوصول إليه. فقد ترى السعادة في التنزّه عن المادة، وفي الروحانيّات وحدها، فتزهد في الدنيا، وقد تتوهّم أن السعادة في الشهوات البدنيّة، فتصبح السماء موطنًا للملذّات، وقد تزعم أنّ الحياة قصاص، فيخيّل إليها أنّ السعادة الكبرى في عدم الوجود، ليس في الموت، بل في الاضمحلال التام، في النرفانا (...) إنّ على المرء أن يعمل الصلاح دون أن يرجو لعمله ثوابًا، وأن يعمل الواجب لأنّه واجب، وإنّ الدين الحقيقيّ ليس في ثرثرة الكلام، وترديد العبارات، وزيادة القبور والاشتراك في الحفلات – وإن حُبِّذت – ولكنه بادئ ذي بدء في الصلاح، في التنّزه عن المفاسد، وفي عمل الخير (...) علينا بالتسامح في أعمالنا، وبالتسامح في أقوالنا، ليعلم ذوو العصبيّة والنعرة الدينيّة أنّنا أرحب منهم صدرًا وأكثر منهم حلمًا، لأنّ إلههم رب إبراهيم ويعقوب هو أيضًا إلهنا، غير أنّنا نجلّه عن أعمال يقود إليها التعسّف والظلم. فإذا حَضَرْتكَ الساعة يا بني وأسلمك الطبّ، فباالله عليك لا تكن جبانًا. وشدّد عزيمتك وتأهّب لمجابهة الموت ومصافحته دون وجل، لأنك قد عملتَ واجبك مدة حياتك. واعلم أنّ السنين التي قضيتها على ظهر البسيطة لم تذهب جزافًا، وأنّ كل ما أحببته سيعيش بعدك، وأنّ خير ما فكرت فيه سيتحقّق يومًا ما على وجه الأرض. وكن على ثقة بأنّ الحياة وإن تتابعت بعدك، فهي مدينةٌ لك بشيء، وأنّ حبة الخير التي زرعتها ستورق بعد موتك، وتصبح شجرة يستظلّ الناس بأغصانها. ولا شك في أنّ السكينة ستغشى قلبك إذا علمت أن التراث العلمي والأدبي الذي ورثته عن أسلافك سيذهب إلى أيادٍ صالحة تعمل مثلك على رفع شأنه، وأنّه سيحيا من بعدك مستنيرًا بشعلة ذكائك التي لا يستطيع الموت إخمادها، وأنّه سينتقل من يد الذاهب إلى يد اللاحق، وهو عربون الرجاء ومنارة الإنسانية. إيه ابني! أما رأيت أن البزرة لا تنتشي وتكبر وتثمر أغصانها، إلاّ إذا عرّاها الموت من ثيابها ومزّق أحشاءها؟ وكذلك المرء لا تأتي أعماله بأثمارها إلاّ إذا حطمته المنيّة، فلا تأسف على حياة قضيتها بالأعمال، ولم تقضِ منها لبانة، فهذه سنّة الزمن في الخلائق. فإذا تحقّق لديك أنّ الدوام الأبديّ سيتابع بعدك مجراه، وأنّ موت الفرد لا يقطع حبل الوجود، عرفتَ تفاهة الأمر الذي أنتَ تستعظمه وردّدت في سرّك علامَ الخوف والجبن!".

هي "ديانة الإنسانية" التي كان يؤمن بها شلحت أشدّ إيمان، مؤثرًا القيم الإنسانية والصفاء والصلاح على التديّن الظاهريّ والإيمان "الترديديّ" كما أسماه

ويروي د. شلحت ختامًا، وبالنبرة الإنسانيّة والوجدانيّة التي آثرتها لـ"ترطيب" الكلام العلميّ الموضوعي، قصة "مفاتيح المملكة" من التراث العالمي: "كأن لأحد الرهبان الورعين صديق ملحد شديد الصلاح كثير الميزات، وهو إلى ذلك طبيب نطاسيّ حاذق جهده العناية بالمساكين والفقراء، وكان الراهب مقيمًا في بعض مقاطعات الصين يسعى في تعليم الأهلين أصول الدين المسيحيّ. وعلى حين فجأة انتشر وباء خبيث في تلك الأقطار جارفًا بني البشر. فأرسل الراهب بكتاب إلى إنكلترا يخبر صديقه بواقعة الحال، وما هي إلاّ صبيحة يوم وغروبه حتى كان الصديق يسارع إلى إغاثة الملهوفين من غير أبناء جلدته، وينتزعهم من مخالب الموت انتزاعًا. ولكنّ الانكباب على المرضى أضنكه والسهر الشديد ذهب بقوّته، فإذا العلّة تسري إليه، وإذا بالمداوي يداوى ولا أمل بالشفاء. وبينما هو على سرير موته والراهبات من حوله يتمتمن في الصلوات، التفت إلى صديقه الراهب وقال له: "أبتاه لا تحاول أن تزعزعني عن اعتقاداتي وتنغّص عليّ لحظات حياتي الأخيرة". وما هي إلاّ ساعات قلائل حتى غشيه الموت وعلى فمه ابتسامة شهداء الإنسانيّة. فنظرت عندئذ إحدى الراهبات إلى رئيسها وقالت بغضب: "أيموت صديقك أمامك ولا تبدي أيّة محاولة لردّه عن إلحاده، عسى أن يغفر الله له؟" فرنا إليها الراهب الحكيم بطَرْفٍ حزين وقال برنّة أسى: "اعلمي يا أختاه أنّ مكان هذا الراحل محفوظ في النعيم الأبديّ وإن لم يؤمن به. إنّ رجلًا ترك بلاده وفارق أهله ليلبّي نداء الإنسانية لهو أولى الناس بالخلود". أمّا وربّي لقد أصاب هذا الراهب كبد الحقيقة، فإنّ أبواب مملكة السماء المفتوحة للصالحين من الناس دون تمييز بين مذاهبهم. فعلى رجال الدين ألاّ يضيقوا ذرعًا بأمثال هؤلاء الأفذاذ الذين يعملون الواجب والصلاح دون أن يرجوا ثوابًا لأعمالهم. إلاّ أنّ صفاء القلب وسلامة الطويّة وحسن الظنّ بالناس هي مفاتيح مملكة السماء والأسس الأولى لديانة الإنسانية".

هي إذًا، "ديانة الإنسانية" التي كان يؤمن بها الدكتور شلحت أشدّ إيمان، مؤثرًا القيم الإنسانية والصفاء والصلاح على التديّن الظاهريّ والإيمان "الترديديّ" كما أسماه. هذا المفكر المتنوّر، الرائد في مجال اختصاصه وأبحاثه، الوافد إلى عالم الفكر الإنسانيّ من مشرقه الغنيّ بالأفراد المتقدمين فكريًا والمميزين، يستحقّ أن نكتشفه (مثلما حصل معي) أو نعيد اكتشافه وقراءته، ففكره الفذّ، العميق والمتين، العلميّ والموضوعيّ، يبقى صالحًا ومضيئًا لنا الطريق في أيّ زمن وأيّ ظرف تاريخيّ.

٭ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.