}

ڨيتوريو أريغوني: الشاهدُ في "مصنعِ الملائكة" في غزّة

جورج كعدي جورج كعدي 7 مارس 2024
استعادات ڨيتوريو أريغوني: الشاهدُ في "مصنعِ الملائكة" في غزّة
ڨيتوريو أريغوني (Getty, Gaza, 29/8/2008)
 

كنتُ أتذكّرُ القليل عن حكاية هذا المناضل الإيطاليّ الذي شهد لمآسي غزة عامي 2008 و2009 واستشهد على أرضها في نيسان̸ أبريل عام 2011، ويا لعبث الأقدار، على أيدي مجموعة سلفية تكفيرية كانت حركة حماس تطارد أفرادها للقضاء على شرّهم المسيء إلى غزة وأهلها والقضية الفلسطينية عامةً. كان اسم ڨيتوريو أريغوني يتردّد صداه في ذاكرتي من بعيد، حتى أعادتني مأساة القطاع الراهنة إلى شهادته الكاملة من خلال كتاب "غزة، حافظوا على إنسانيتكم" الذي صدر عام 2012 عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وقدّم له المؤرّخ إيلان بابيه، وجُمعت فيه مدوّنات هذا الصحافيّ المناضل والملتزم ورسائله الميدانية من غزة لجريدة "إل مانيفستو" الإيطالية طوال سنتين أمضاهما مع أهل القطاع المحاصر، المتألّم والمنكّل بأطفاله ونسائه وشيوخه في مجازر إباديّة متتالية.
كم يعيينا الكلام حيال مشاهد الإبادة اليوم، وكم نشعر بالعجز الكامل عن التوصيف، لإدراكنا أنّ لا قيمة أو أهمية أو جدوى لأيّ تعبير قياسًا بحجم الفجائع والآلام التي يتنكّبها معذّبو غزة ولا يفيها أيّ منطوق أو مكتوب حقّها... إلا إذا كان – وهذا ما اكتشفته – صادرًا عن أمثال ڨيتوريو أريغوني نتيجة اختبار ميدانيّ حقيقيّ وعيش على حافة الخطر والموت. شهادات أريغوني، استنادًا إلى مشاهداته الحيّة في حقل القتل والجوع والدمار، أسوةً بأهل غزة المتألّمة منذ عقود، تنضح صدقًا وتعاطفًا وتأثيرًا، متيحةً للقارئ الغربيّ الذي يتوجّه إليه صورةً فعليّةً عن حجم المأساة وهولها، وعن فظاعة ما يحدث في السجن الكبير المحاصر، المجوّع والمقتول.
هذه النظرة إلى أريغوني يؤكد عليها إيلان بابيه في مقدمته الوافية إذ يقول: "إن إحدى أعظم مساهمات هذا الكتاب هي أنّه، أولًا وقبل كل شيء، يُعتبر رواية شاهد عيان لإنسان يمثل كل إنسان، ولشخص إنسانيّ حقيقيّ. رجل يعلم أنّ ما جاء في كتابه يمكن أن يفتح نافذة صغيرة للعقول المغلقة التي تدعم إسرائيل من دون قيد أو شرط (...) إن تقارير ڨيتوريو أريغوني اليومية تأتي مباشرة من ميادين القتل في غزة، ولهذا السبب فهي تخلو من أيّ تشويه أو تلاعب إعلاميّ. من خلال روايته لما جرى يمكننا رؤية كيف أصبح أيّ فلسطينيّ في عيون نصف اليهود الإسرائيليين، العصيين على أيّ انتقاد داخلي أو ضغط خارجي، هدفًا لـ(غضب الصالحين). إنّ (غضب الصالحين) ميزة دائمة في سيطرة إسرائيل، وقبلها الحركة الصهيونية، على فلسطين. فكل عمل، أكان احتلالًا أم عملية تطهير عرقي أم مذبحة أم تدميرًا، يتمّ تصويره أدبيًّا على أنه دفاع عن النفس لجأت إليه إسرائيل (...) يدور الكثير في هذا الكتاب حول المحاولة البطولية لمتطوعين أمثال ڨيتوريو أريغوني للوقوف حصنًا يحمي أهل غزة".



يدعونا ڨيتوريو إلى "جولة في الجحيم" بحسب تعبيره، فـ"حتى الشاعر دانتي أليغيري لم يكن بإمكانه تخيّله". في هذا الجحيم يصعب تمييز الملامح التي كانت ذات مرة وجهًا إنسانيًا تمّ تصغيره إلى ما يشبه العجينة بفعل أسلحة التدمير التي حرّمتها كلّ الأعراف والشرائع الدولية. من شقته المواجهة لبحر غزة كان ڨيتوريو يفتح النافذة على المنظر الجميل، إنّما أيضًا على البؤس الذي يتسبب به الحصار، بل على كلّ الجحيم خارج تلك النافذة حيث دمّر المرفأ المقابل للشقة حتى سوّي بالأرض. رسالة له تحمل تاريخ 29 كانون الأول ̸ ديسمبر 2008 يختمها بنداء استغاثة: "رجاءً، ليوقف أحدٌ هذا الكابوس. إن خيار الصمت يعني بطريقة أو بأخرى دعم الذين يقومون بالإبادة الجماعية التي تجري حاليًا. فلتصرخوا معبّرين عن نقمتكم في كل عاصمة من عواصم العالم (المتحضّر)، في كل مدينة، وفي كل ساحة. ولتعبّر هذه الصرخات عن الألم والرعب. هناك شريحة من البشر تموت بينما تصيخ السمع بألم، في انتظار أيّ استجابة. حافظوا على إنسانيتكم!".
عبارة "حافظوا على إنسانيتكم" لازمة ينهي بها ڨيتوريو كلًّا من رسائله ومدوّناته ومُنحت عنوانًا للكتاب. وفق توصيفه الخاص يعدّ نفسه "شاهد عيان على قصف المساجد والمدارس والجامعات والمستشفيات والأسواق والكثير من الأبنية المدنية"، أي النسخة المصغّرة، عامذاك عن النسخة الحالية الأبوكاليبتيّة، مشبّهًا الوضع بأنه "أشبه ما يكون بوقوع كارثة طبيعية. حقد دفين وثوران كلبيّ صُبّ فوق رؤوس الناس في غزة مثل الرصاص الذائب، ممزّقًا الأجساد البشرية إلى قطع (...)"، ليكمل المشهد الجحيميّ في رسالة تالية: "رأيتُ في مشفى العودة جثثًا لا تُنزل من سيارات الإسعاف فقط بل من العربات الخشبية التي تقطرها الحيوانات (...) حوّلت إسرائيل المستشفيات والمشارح الفلسطينية إلى مصانع للملائكة، غير مدركة حجم الكراهية التي جلبتها لنفسها في فلسطين وبقية العالم. إنّ مصانع الملائكة تنتج ملائكة عبر خطّ إنتاج يعمل من دون توقف في هذه الليلة أيضًا: أستطيع الجزم بذلك من أصوات الانفجارات التي يمكنني سماعها من نافذتي. هذه الجثث المبتورة والمقطّعة إلى قطع صغيرة، هذه الحيوانات التي تبدّدت قبل أن تسنح لها الفرصة بالتفتّح، ستبقى كابوسًا يتكرّر أمامي لبقية حياتي".

آمن ڨيتوريو أريغوني بأن وجوده في غزة "ضروري لتقديم رواية شاهد عيان على الجرائم التي تُقترف بحق سكان مدنيين مجرّدين من السلاح، ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة". إنها الشهادة بشكل خاص على موت الأطفال وتمزّق أجسادهم: "كان هنالك طفل مستلقٍ، جمجمته مفتوحة، كرتا عينيه متدليتان خارج محجريهما تتمايلان في وجهه مثل تينك العينين على طرفي قرني سرطان بحريّ. عندما حملناه كان لا يزال يتنفس. أمّا أخوه الأصغر فقد انتُزعت أحشاء صدره حتى يمكن بوضوح إحصاء عدد ضلوعه البيضاء من خلال لحمه الممزق. كانت أمّهما تضغط بكلتا يديها على ذلك الصدر المنزوع الأحشاء، كأنها تحاول إصلاح ما خلقته ثمرة حبها، وها قد كسرته إلى الأبد الكراهية المجهولة المصدر التي يحملها الجنود".
إنها حقًا "الرؤيا الآن" في مشاهدات الصحافي المناضل، تحت سماء تمطر رعبًا وموتًا وأرض تهتزّ تحت الأقدام، ووسط جموع من اللاجئين من منطقة إلى منطقة داخل القطاع (ما يتكرّر اليوم على نطاق أوسع) "كأنهم ناجون من زلزال أو تسونامي". في الرسالة عينها يفصح ڨيتوريو عن انتمائه الفكري والإنسانيّ في حديثه إلى الممرّض أبو محمد القابع في المستشفى إثر تعرضه لإصابة بالغة في الرأس: "أخبرته أنّ فهمي الأول لفلسطين ومأساتها الهائلة قد وصلني بالكامل عن طريق والديّ الشيوعيين. سألني من كان أكثر قادة اليسار الإيطاليّ ثورية؟ أجبته: أنطونيو غرامشي". وإلى مشهد كابوسيّ آخر سجلته عدسة كاميراه: "التقطتُ البارحة بعض الصور بالأبيض والأسود لقافلة من العربات التي تجرّها البغال والمحمّلة فوق طاقتها على نحو يفوق التصوّر بالأطفال الذين يلوّحون بالرايات البيض نحو السماء بوجوه شاحبة ومرتعبة. وأنا أتأمّل الصور السريعة لهؤلاء اللاجئين الهاربين، كانت الرعشات تنتابني وتصل إلى أسفل عمودي الفقري (...) إنها نكبة جديدة، نوع جديد من التطهير العرقي الذي يلحق بالفلسطينيين الآن".

يقول المؤرخ إيلان بابيه في مقدمة الكتاب:  إن تقارير ڨيتوريو أريغوني اليومية تأتي مباشرة من ميادين القتل في غزة، ولهذا السبب فهي تخلو من أيّ تشويه أو تلاعب إعلاميّ (Getty)


إلى الأنفاق "الوسيلة الوحيدة للفلسطينيين كي يستمرّوا على قيد الحياة بسبب الحصار الإجراميّ والتجويعيّ لغزة" في توصيف ڨيتوريو: "حتى الماشية تأتي في مصر عبرها، فيُعطى الماعز مسكّنًا ويوثق بالحبال، وتُنزل الأبقار إلى بئر مصرية لتعود إلى الظهور في هذه الجهة من غزة كي تنتج الحليب والجبن واللحوم". صورة سوريالية، رغم واقعيتها، فيها الكثير من القسوة والغرابة للحيوانات والبشر على السواء. ومن المشاهد العبثية في يوميات الإنسان الغزاوي يروي تحت عنوان "الحب تحت القصف" عن لسان صديق له من نابلس كم من الصعب بوجود الاحتلال حصول الإنسان الفلسطيني على لحظة ألفة مع زوجته "ففي إحدى الليالي وبينما كان (صديقه النابلسي هذا) في لحظة عناق ملؤها الرقة مرّت رصاصة بين الزوجين فأصابت لوح السرير الخشبي فوق رأسيهما". إنّه الحب الممنوع تحت الاحتلال.
مستعيرًا القول المعروف "القتلى وحدهم هم من يشهد نهاية الحرب" يرى الصحافي المناضل أنّه قول يسري على غزة حيث لا يمكن لأي وقف إطلاق نار أن يغني، بالنسبة إلى الأحياء، عن المعركة اليومية المتمثلة في السعي الدائم للبقاء على قيد الحياة "فلا يوجد لديهم مياه للشرب ولا كهرباء ولا غاز للطبخ، كما أنّهم يفتقرون إلى الخبز والحليب لإطعام أطفالهم، وفقد الآلاف منهم منازلهم (...) وتابعت جبال الأنقاض لفظ الجثث من جوفها إلى السطح". ما تراه كان سيكتب وينقل لو عاش ڨيتوريو مشاهد الجحيم الحاليّ وحجم الموت والدمار الحاليين؟ هل كان ليقدر على الوصف مثلما فعل قبل خمس عشرة سنة؟ أم كان ليعجزه الكلام مثلما يفعل بالبشر الأسوياء أجمعي؟ الوحشية الإسرائيلية تترك ندوبًا حتى في الأرض: "خلال عودتنا إلى مدينة غزة، يدوّن ڨيتوريو، سقطت سيارتنا في حفرة أحدثتها جنازير دبابة في إسفلت الطريق. دار سائق التاكسي حولها قائلًا: كان الموت هنا وقد مضى تاركًا آثار قدميه. إني أتساءل: كم من الوقت سيستغرق شفاء هذه الأرض من ندوبها؟".
تذكيرًا بمن يكون ڨيتوريو أريغوني، فهو مراسل صحافي وكاتب وناشط إيطاليّ، عمل مع حركة التضامن العالمية (ISM) الداعمة للشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، وكان يملك مدوّنة Guerilla Radio ويراسل عددًا من الصحف الإيطالية وفي مقدّمها "إل مانيفستو". في آب ̸ أغسطس 2008 شارك في الحملة التي تهدف إلى كسر الحصار على قطاع غزة، وبعد تولّي حماس السلطة في القطاع في حزيران̸ يونيو 2007 كان أريغوني على متن أوّل سفينة وصلت إلى ميناء غزة، واصفًا لحظة وصوله يومذاك بأنها واحدة من أسعد لحظات حياته. لكن في الخامس عشر من أبريل/ نيسان 2011 قُتل ڨيتوريو أريغوني، ويا للأسف، على أيدي أصوليين تكفيريين مناوئين لسلطة حماس ولمختلف فصائل المقاومة في قطاع غزة بعد اختطافه للمساومة به على إطلاق سراح معتقلين منهم لدى سلطة حماس، ولم ينتظروا نهاية التفاوض فأعدموه شنقًا، وطاردتهم حماس وقتلت بعضًا منهم، ولقيت جريمة إعدامه إدانة عالمية واسعة فضلًا عن إدانة الشعب الفلسطيني الذي عدّه شهيدًا من شهدائه، منضمًّا بذلك إلى الشهيدة الأميركية المناضلة ريتشل كوري التي سبقته على درب النضال من أجل حرية الشعب الفلسطيني واستشهدت أيضًا في رفح عام 2003 تحت جرافة إسرائيلية دهستها عمدًا على يد سائقها مرتين أثناء محاولتها إيقافه عن هدم منزل مدنيين. وبالأمس القريب كانت حادثة إقدام الطيّار الشاب آرون بوشنل الذي أضرم النار في نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن. ولا ندري حيال هؤلاء المناضلين الغربيين الإنسانيين الأبطال بأيّ عين يمكن أن ينظر إليهم حكام عرب، إن كانوا يملكون نظرًا ووعيًا وبقايا ضمير إنسانيّ، ومثلهم أيضًا الكثير من شعوبنا العربية الصامتة والمتفرّجة في حال من انعدام المشاعر واللامبالاة!

٭ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.