}

غزة "بنت الأجيال": هزيمة الغزاة عبر العصور

سمر شمة 19 يونيو 2024
استعادات غزة "بنت الأجيال": هزيمة الغزاة عبر العصور
جنود الاحتلال البريطاني في غزة عام 1918


تُعتبر غزة "بنت الأجيال" من أقدم مدن التاريخ، عبرتها أمم وقاتلت فيها ومن أجلها جميع جيوش العالم القديم، وعلى أبوابها العتيقة القوية هُزموا جميعًا. كانت مكانًا لإقامة الملوك، ومركزًا لتواصل الحضارات والثقافات، تقود إلى أفريقيا ومنها يتم الدخول إلى مصر. استبسل أهلها في الدفاع عنها منذ القدم، فمن عهد الاسكندر المقدوني الأكبر إلى السلطان سليم الأول إلى عهد الصهاينة المشؤوم كانت تتعرض للمذابح والتدمير، ولكنها بقيت صامدة لا تموت.

هي بوابة العرب القديمة على البحر المتوسط "يتطاير لحمها شظايا قذائف من عقود طويلة. ويصبح الأطفال فيها رجالًا مع أول لقاء مع العدو. والقيمة الوحيدة للإنسان فيها هي مدى مقاومته للغزاة والمحتلين. ولذلك يكرهها العدو حتى القتل ويخافها حتى الجريمة".

تحتل غزة مكانة هامة في فلسطين لموقعها الاستراتيجي وأهميتها الاقتصادية والعمرانية، وهي واحدة من أبرز المدن الفلسطينية التي تتمتع بمكانة استثنائية في التاريخ والحضارة، وتُعد نقطة اجتماع حضاري بين الشرق والغرب، ومدينة غنية بالتراث والثقافات المتعددة.

سُميت "بنت الأجيال" لأنها تقع في قلب الشرق الأوسط، وقطاعها يحمل تاريخًا مشرّفًا من الصمود الأسطوري والمقاومة، ولأنها تحمل في طياتها تاريخًا عريقًا يعود لآلاف السنين، وهي شاهدة على أحداث جِسام منذ عصور ما قبل التاريخ حتى اليوم. هي " بنت الأجيال" للدور الكبير الذي لعبته في تشكيل الحضارات القديمة والحديثة، ولأنها مركز تجاري وثقافي هام، ومحطة أساسية على طرق التجارة بين القارات، ورفيقة العصور الفائتة كلها، تحمل في كل ركن فيها أثارًا وتراثًا يشهد على ما مرت به من حضارات من أيام الفتح الإسلامي إلى أيام العصور الوسطى والعثمانية وهذه الآثار تروي قصص شعبها العظيم وصموده أمام الغزاة والمحتلين.

لم يُثبت بدقة سبب تسميتها بغزة لأن الأمم التي مرت بها غّيرت اسمها عدة مرات، فكانت تُعرف لدى الكنعانيين بـ"هزاتي" ولدى الفراعنة بـ"غزاتو"، ولدى الفرس بـ"هازاتو"، ولدى العبرانيين بـ"عزة" وتعني القوة ولدى الصليبيين بـ"غادريس"، ولدى الإنكليز بـ"غزة"، وسماها العرب "غزة هاشم" نسبة إلى هاشم بن عبد مناف جد الرسول (ص) الذي مات ودُفن فيها أثناء عودته بتجارته إلى الحجاز. وهناك اختلاف في تفسير سبب تسميتها بغزة، فبعض المؤرخين يقولون بأنها اشتّقت من كلمة "المِنعة" و "القوة"، وغيرهم يرى أنها تعني "الثروة" أو "المميزة"، ولكن ياقوت الحموي قال في معجمه أنها تعني: "أن يُميَّز شخص ما بشيء خاص من بين أصحابه".

بناها الأقدمون، وكان العرب والمصريون أول من ارتادها، وهم من حملوا إليها بضائعهم وسلعهم من الطيب والبهار والبخور وغيرها، و قد جاء إليها الصحابي أميّة بن أبي الصلت الثقفي، ووالد الرسول (ص) عبد الله بن عبد المطلب للتجارة، ويقول بعض المؤرخين: إن مملكة معين وسبأ أولى الممالك العربية التي أسّست مدينة غزة، وإن الفلسطينيين القدماء الذين جاء ذكرهم في أسفار العهد القديم هم أول من استوطنها، كما سكن فيها أحفاد النبي إبراهيم، و "الأدوميون" وهي قبائل كانت تسكن جنوب الأردن، و"العموريون" و"الكنعانيون" الذين لم يتم الاتفاق على أصلهم. بينما يؤكد عالم الآثار الإنكليزي سير وليام فاندرز بتري إن غزة القديمة أُنشئت قبل الميلاد بثلاثة آلاف عام فوق التل المعروف بـ"تل العجول" وإن سكانها تركوها بسبب الملاريا التي اجتاحتها وحطوا رحالهم وأنشأوا غزة الجديدة الحالية، وذلك في عهد الهكسوس الذين سيطروا على المنطقة قبل ألفي عام من ميلاد السيد المسيح. وهناك من ينفي ذلك مؤكدًا أن غزة ما زالت حتى الآن في موقعها القديم وأن "تل العجول" كانت ميناءها التجاري.

أما المؤرخ الفلسطيني المقدسي عارف العارف فقد أكدّ في كتابه "تاريخ غزة": إن المعينيين الذين يُقال إنهم أقدم شعب عربي حمل لواء الحضارة في الألفية الأولى قبل الميلاد هم أقدم من ارتادوا هذه المدينة وأسسوها كمركز يحملون إليه بضائعهم.

يتجاوز تاريخ غزة ما يزيد على أربعة آلاف سنة، وأول ذكر تاريخي للمدينة كان في فترة حكم تحتمس الثالث، ويعود تاريخ الاستقرار فيها حسب بعض الدراسات إلى الفترة ما بين 3000-3300 ق.م.

تحتل "بنت الأجيال" مكانة كبيرة في فلسطين لموقعها الاستراتيجي والجغرافي الحيوي، حيث تقع على تقاطع قارتي آسيا وأفريقيا، ولذلك كانت ميدانًا للصراعات العسكرية بين الإمبراطوريات القديمة والحديثة بما في ذلك: الإمبراطوريات الفرعونية، الآشورية، الفارسية، اليونانية، الرومانية والصليبية. وتقع على خط التقسيم المناخي حيث تجمع بين مناخ الصحراء جنوبًا ومناخ البحر المتوسط شمالًا وهذا ما جعلها مركزًا تجاريًا لتبادل المنتجات العالمية عبر العصور.

تنبع أهميتها بالنسبة للعرب من كونها الطريق التجاري الأفضل لهم مقارنة بالملاحة في البحر الأحمر، حيث كانت التجارة تبدأ من جنوب بلاد العرب في اليمن التي يجتمع فيها تجار الهند مع التجار العرب ثم تسير شمالًا إلى مكة ويثرب (المدينة المنورة حاليا) والبتراء قبل أن تتفرع إلى فرعين أحدهما في غزة وثانيهما في طريق الصحراء إلى دمشق وتدمر، حتى أن غزة كانت الهدف في إحدى الرحلات الشهيرة التي ذُكرت في القرآن الكريم في سورة "قريش" حيث كان القرشيون يذهبون إلى اليمن في الشتاء وإلى غزة والشام في الصيف.

قال عنها المستشرق الأميركي ريتشارد غوتهيل: "إنها مدينة مثيرة للمهتم بدراسة التاريخ، وهي نقطة التقاء للقوافل التي كانت تنقل بضائع جنوب الجزيرة العربية والشرق الأقصى إلى البحر المتوسط ومركز توزيع هذه البضائع إلى سورية وآسيا الصغرى وأوروبا، وهي همزة الوصل بين فلسطين ومصر".

مقابر تعود لألفي عام قبل الميلاد تم اكتشافها في غزة ام 2022


كانت أيضًا إحدى المدن الرئيسة على طريق الحرير وفيها سوق القيسارية الذي يضم متاجر للحلوى والألبسة والأعمال الفضية والنحاسية والمخابز وعمره 700 عام وقد بُني في القرن الرابع عشر في البلدة القديمة، إضافة إلى المسجد العمري أكبر مؤسسة إسلامية منذ 900 عام والأقدم في فلسطين بعد الفتوحات الإسلامية في الأراضي المقدسة.

الجدير ذكره أن المدينة القديمة في غزة كانت مُحاطة بجدران كبيرة تحتوي على أبواب متعددة كباب البحر أو باب ميماس نحو الغرب، وباب عسقلان نحو الجنوب، وفيها معالم وآثار تاريخية ودينية فريدة من نوعها وعريقة مثل: تل المنطار سلاح الكنعانيين لمواجهة الغزاة، وكنيسة "القديس برفيريوس" ثالث أقدم كنائس العالم، وحي الدرج وهو الواجهة الأثرية للمدينة القديمة، إضافة إلى القصور كقصر الباشا الذي يمثل في تصميمه ومحتواه المعماري فلسفة وطابع العمارة الإسلامية.

وقد قال عنها المؤرخ المقدسي عارف العارف: إنها كانت في أربعينيات القرن الفائت "من أجمل المدن الفلسطينية الواقعة على شاطئ المتوسط. فيها حدائق غنّاء. وحول المدينة القديمة بساتين تُزرع فيها جميع أنواع الخضار والفواكه. ماؤها عذب. وهواؤها عليل. إنك إذا جئتها صيفًا وجدتها أحسن مصيف. وإذا نزلتها شتاء وجدتها أبدع مشتى في فلسطين".

والمعروف أن روح الصمود والمقاومة في هذه المدينة ليست وليدة العصر الحالي بل هي سلسلة متداخلة الحلقات، فهذه المدينة تملك وثائق مكتوبة تعود إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، ومنها ما يُظهر اعتراف "بوليبوس"، أحد ملوك سورية السلوقيين الذي اجتاحها عام 120 ق. م بشجاعة أهلها وتكاتفهم ومقاومتهم البطولية للغزو الفارسي، ووقوفهم في وجه الإسكندر المقدوني أحد ملوك مقدونيا الإغريقية وأشهر القادة العسكريين عبر التاريخ والذي اجتاح المدينة ثلاث مرات خلال الفترة من 332-333 ق. م، والذي فتح أيضًا في منتصف القرن الرابع قبل الميلاد الكثير من المدن وقضى على عدد كبير من الممالك وكوّن أكبر إمبراطورية عرفتها الإنسانية، وهاجم سورية واستولى على صيدا وصور ثم هاجم غزة فتصدى له أهلها وقاوموه لشهور عديدة حتى أن أسوارها تصدعت ثلاث مرات على يد الألغام والمجانيق والمقذوفات التي أصابتها منه ومن جيشه، ولكنه استطاع بعد معارك عنيفة وصمود أسطوري لأهل غزة أن يقضي على هذه الحامية واعتقل وقتل كل من ظل حيًا من رجالاتها والمدافعين عنها، ونكّل بأهلها وباع نساءها وأطفالها، ودمرّ أراضيها ومنشآتها بعد أن استعصى عليه دخولها بعد حصارها لمائة يوم. وعذب أيضًا ملكها "باطيس" وربطه بعربات الخيل وقتله بين الأسوار.

تكررت الحكاية في كل العصور فقد وقعت المدينة في تاريخها القديم تحت سيطرة قدماء المصريين والرومان والفرس واليونان والآشوريين والبابليين، وعندما ثار الغزيون ضد الحامية العثمانية بعد هزيمة السلطان العثماني سليم الأول عندما كان متوجهًا إلى مصر وقتلوا أفرادها قام بالعودة إليها وارتكب فيها مذابح وجرائم يندى لها الجبين. ولذلك وصف المؤرخ العارف تاريخ غزة بالمجيد لأنها: "صمدت لنوائب الزمان. حتى أنه لم يبقَ فاتح من الفاتحين أو غازٍ من الغزاة الذين كانت لهم صلة بالشرق إلا ونازل أهلها والمدينة، فإما قد يكون قد صرعها أو قد تكون قد صرعته".

عاشت مدينة غزة النكبة تلو النكبة وكانت وما زالت في قلب الصراع التاريخي مع الاحتلال الإسرائيلي منذ 1948 حتى الآن وصولًا إلى الحصار المفروض عليها منذ أعوام، وإلى الحروب الإسرائيلية المتواصلة ضدها حتى تحولت إلى سجن بشري كبير يقطنه أكثر من مليوني فلسطيني وتستبيحه سلطات الاحتلال كل يوم.

تقول الأبحاث التاريخية إن اليهود وإن نجحوا في دخول فلسطين إلا أنهم لم يتمكنوا من إخضاع غزة وإذلالها. فظلت بعيدة عن نفوذهم. وإن أهل غزة هم الذين خاف بنو إسرائيل بأسهم. وهذا ما جاء في القرآن الكريم في سورة المائدة: "قالوا يا موسى إن فيها قومًا جبارين وإنّا لن ندخلها حتى يخرجوا منها".

لقد قاومت غزة وسائر المدن الفلسطينية وعلى مدى عقود طويلة ببسالة نادرة المستعمر البريطاني ثم الإسرائيلي منذ وعد بلفور المشؤوم 1917 حتى يومنا هذا، وثار الفلسطينيون ضد الصهاينة وقاموا بانتفاضات مشرفة، بينما قام الاحتلال الإسرائيلي بحصار القطاع لسنوات طويلة من البر والبحر والجو.

وخاض بنيامين نتنياهو وحده خمسة حروب ضد غزة من أصل عدد من الحروب تعرضت لها منذ إعلان إسرائيل انسحابها من القطاع 2005 وهو يخوض وجيش الاحتلال منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر العام الفائت حرب إبادة جماعية ممنهجة بأحدث الأسلحة وأكثرها فتكًا وتدميرًا ضد القطاع وأهله الصامدين الصابرين، ويخوض مع سلطات الاحتلال حرب تجويع وتنكيل بالغزيين كبارًا وصغارًا، رجالًا ونساء، أطفالًا وحديثي الولادة، في استباحة للدم الفلسطيني على مرأى من العالم وبدعم من بعضه وتواطؤ من بعضه الآخر.

أكثر من 37000 شهيدٍ و84900 جريح في غزة حتى الآن، وآلاف المعتقلين والمعتقلات، والمشردين والمهجرين والمفقودين. وعدد كبير من المقابر الجماعية وضحايا المجاعة والجفاف وانعدام الخدمات الصحية واستهداف المشافي والكوادر الطبية واغتيال الصحافيين وأسرهم وأبنائهم والعاملين في المجال الإنساني المدني من فلسطينيين وعرب وأجانب، وتدمير وقصف للمنازل والجوامع والكنائس والمدارس، وكل ركن من أركان القطاع الذي ما زال بعينيه يقاوم.

لقد عاشت غزة مآسي موجعة عبر العصور، ولكن على الرغم من كل القوانين الدولية والاتفاقيات والنقل المباشر لعمليات القصف والتدمير التي يتابعها العالم أجمع، ووجود الأمم المتحدة والصليب الأحمر، فإن إسرائيل ما زالت ماضية في حرب الإبادة الجماعية بغزة، وما زالت تلك المدينة وذلك القطاع كابوسًا يوميًا للاحتلال وكنزًا معنويًا وأخلاقيًا ونضاليًا، ولا زالت تعادل تاريخ أمة. 

مراجع:

- "تاريخ غزة"، عارف العارف

- بوابة فلسطين

- "معجم البلدان" لياقوت الحموي

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.