}

"خنساء فلسطين": ما بين المجازر والمنافي وقوافل الشهداء

سمر شمة 30 يونيو 2024
استعادات "خنساء فلسطين": ما بين المجازر والمنافي وقوافل الشهداء
ولدت خنساء فلسطين عام 1954 في لبنان
"أنا لست في غزة، هذه صبرا وشاتيلا، هذه العمارة المدمرة هي ذاتها التي دُمرت على أفراد عائلتي وقتلتهم جميعًا، في صبرا وشاتيلا كانت الجثث والأشلاء والهدم والدماء والدمار، والحال ذاتها تتكرر في مجزرة غزة بالتفاصيل نفسها، بالمحاصرة والقتل والتشريد والذبح وهدم البيوت فوق رؤوس ساكنيها".
هذا بعض ما قالته الشاعرة الفلسطينية رحاب كنعان الملقبة بـ "خنساء فلسطين" بعد عودتها إلى غزة عقب الحرب الإسرائيلية الوحشية التي شُنت عليها عام 2014. وكأنها تتحدث عن القطاع اليوم، وكأن المجازر الدامية نفسها تتكرر في كل ركن من أركانه منذ عشرة أشهر بأسلحة أشدّ فتكًا وتدميرًا وبقرار صريح وواضح بالإبادة الجماعية لأهله وساكنيه وبتواطؤ ودعم من بعض الدول والحكومات والأنظمة.
"الناس خرجت في صبرا وشاتيلا لتحتمي بالمستشفيات ظنًا منهم أنها مكان آمن لا يقترب منه العدو، إلا أنه تم قتل الأطباء واغتصاب النساء، لقد كانت المشاهد صعبة يصعب وصفها". هذا ما قالته أيضًا، وكأن الأمس يكرر نفسه في غزة بكل تفاصيل الجرائم الوحشية العدوانية، ولكن بأعداد هائلة من الشهداء والجرحى والمعتقلين والمفقودين، وأعداد كبيرة من الأطباء والكوادر الطبية بين شهيد ومعتقل ومفقود، واعتداء سافر على المستشفيات، وتحويل أجزاء من بعضها إلى مقابر جماعية مظلمة وموحشة.
"عدتُ إلى المخيم لعليّ أرى جثامين أهلي، وعندما دخلته لم أعرفه أبدًا، فلا بيوت ولا بنايات، مشيت وسط الخراب فوجدت امرأة عجوزًا تسحب جثةً من جوف الأرض المحروثة، سألتها: أين المقبرة يا خالة، فردت بدموعها المنسابة: أنتِ وسط المقبرة يا ابنتي".
هذا ما كتبته ورددته أيضًا الشاعرة كنعان عن المخيمات التي شهدت جرائم حرب لا تُنسى: تل الزعتر ــ وصبرا وشاتيلا، وكأنها تروي ما حدث منذ السابع من أكتوبر العام الماضي وما زال يحدث حتى اليوم من تهجير وقتل وتجويع لأهالي غزة، وغالبيتهم من المدنيين والأطفال والنساء، ومن استباحة للمنازل والمدارس والمشافي، وتحويلها إلى مقابر تشهد على هذا العدوان البربري الجبان.
لا شك في أن الشاعرة رحاب كنعان هي مثال عن واقع المرأة الفلسطينية ونضالاتها وأوجاعها، والتي عاشت المرارة والفقد والاغتراب ووجع المنفى منذ النكبة حتى الآن، ولكنها بقيت شامخة صامدة ما بقي الوطن، تُعبر من خلال شعرها وأدبها عن بطولات شعب كامل تقطعت به السبل والطرقات، وخذله الجميع، وقاتل بأشكال مختلفة حتى الموت أو الانتصار:
إلى متى سيبقى قمحنا تحصده العواطف
دعوا أرض الطهر تستنشق الحياة
وتنسى تسوّل العواطف...
ولدت خنساء فلسطين عام 1954 في لبنان، وكانت أسرتها قد هاجرت من قرية قديتا في قضاء صفد إثر النكبة 1948، واستقرت في مخيم تل الزعتر شرقي بيروت. وفي عام 1976 فقدت 51 شهيدًا من أسرتها، هم: الأب والأم، وخمسة من الأخوة، وثلاث من الأخوات، وعدد كبير من الأقارب، في المجزرة المروعة التي طاولت المخيم خلال الحرب الأهلية اللبنانية.




"ضاع وجه أبي، وتاهت صرخة أمي، وتناثرت ضفائر أختي، وبقايا أنامل أخوتي، نامت الابتسامة، وناحت عليها اليمامة، وبقيت وحدي".
هي ليست ككل النساء، إنها امرأة من وجع، احتملت ما لا يحتمله أقوى البشر وأكثرهم إرادة وتماسكًا، ولكنها بقيت مؤمنة بعدالة القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني والشهداء:
تحضر قبورهم وصورهم المتناثرة إلى
أشعاري
نزيف الكلمات المكلومة له مذاق موجع إلى
حد الموت...
لم تتوقف الفجائع هنا، ففي عام 1982 شهد مخيم صبرا وشاتيلا في لبنان مذبحة قتل جماعية هائلة، استمرت لثلاثة أيام متتالية في السادس عشر من سبتمبر، وراح ضحيتها مئات المدنيين العزّل، وكانت من الجرائم الكبرى للاحتلال الإسرائيلي وأعوانه في لبنان، ومن أبشع الأحداث على مرّ التاريخ، ولا تزال محفورة حتى الآن في ذاكرة الفلسطينيين واللبنانيين، وغيرهم، وفقدت الأم رحاب كنعان في هذه المجازر ابنها ماهر، وعددًا من أبناء خالتها، ولم يصلها أي خبر عن ابنتها ميمنة، فظنت أنها استشهدت، وأصبحت بذلك خنساء فلسطين، وابنة قافلة من تضحيات جسام تضم 54 شهيدًا.
بعد هذه المذبحة، وبعد اجتياح بيروت 1982، خرجت إلى تونس مع خروج منظمة التحرير الفلسطينية إلى هناك، وبقيت تعيش كل لحظة من حياتها حزنًا لا تعبر عنه الكلمات: "كان خبر استشهادهم صعبًا جدًا، وشعرت حينها وكأنني طير قُص جناحاه، وحينها قلت يا رب أنت الذي خلقتني، وأنت من أخذت، وعليك أن تصبرني، وفعلًا أكرمني الله بالصبر". ولم تستطع بعدها العودة إلى لبنان لمنعها من ذلك، إلا أنها وبعد 14 عامًا من المنافي والتشتت عادت إلى فلسطين، واستقرت في غزة، وبقيت فيها حتى أيلول/ سبتمبر 2023.
عاشت رحاب كنعان مأساة سقوط تل الزعتر، وآلام الجرائم التي ارتكبت في هذا المخيم في 12 آب/ أغسطس 1976، الذي مورست فيه أبشعها وأقذرها، من ذبح للأطفال والنساء والشيوخ، وقصف بشتى أنواع الأسلحة، واغتصاب، وتدمير للمنازل، وإبادة، وسلب لأموال المدنيين.

كتبت رحاب كنعان في أشعارها كثيرًا عن هذا المخيم

وكانت هذه الجريمة التي وقعت شمال شرقي بيروت أطول معارك الحرب الأهلية وأكثرها خسائر وضحايا وشهداء. تقول كنعان: "في مخيم تل الزعتر بيوتنا كانت من تنك وصفيح، تجرعنا فيه المهانة والذل، أتساءل دومًا: والدي ووالدتي وأخوتي كلهم دفعة واحدة، أي حقد أعمى هذا؟ أي جنون هذا الذي استهدف ملجأ المدنيين".
كتبت في أشعارها كثيرًا عن هذا المخيم، وعن مآسيه، والفقد الذي عانته بعد المذابح التي جرت فيه:
بدمعة من حنين
ناديت من جندلتهم القنابل
بحثت عنهم بين ركام المنازل
كلمتني بقايا الجدران...
كان خبر استشهاد أهلها وأقاربها صعبًا جدًا، واستشهاد ابنها مؤلمًا وموجعًا. كتبت بوجع الأم العميق وحزنها النبيل الأبدي قصائد رثاء لإبنها الذي استشهد في مجازر صبرا وشاتيلا على يد قوات الاحتلال الإسرائيلية وميليشيات لبنانية:
أماه طرزي لي ثوب الفرح
فأنا راحل للأرض أرويها بدمائي
أماه ها أنا ذا أنال الشهادة
أصنع من ثوبي وسادة يتكئ عليها العابرون إلى الوطن الجريح...

كما قالت وكتبت كثيرًا عن هذه المجازر التي هزت ضمير العالم آنذاك بلا نتائج عادلة: "بدأت المجزرة بالسلاح الأبيض، إسرائيل طوقت كل مداخل المخيم من صبرا لشاتيلا، كانت الأشلاء على الأرض، والدماء مثل النهر، والأصعب من ذلك حينما كانت تُمزق بطون الحوامل من دون أي رحمة، حيث كانت تُحفر مقابر جماعية والجثامين تتناثر في كل مكان".




ومن المجازر إلى المنافي وبلاد الشتات عادت الشاعرة كنعان إلى غزة لتجلس في بيتها تُقلب صور أحبتها، وتنسج كلماتها ممزوجة بالدم والقهر ورائحة الأهل والأبناء، لا تنسى ولا تريد أن تنسى ما حدث: "ما زالت تفاصيل الجريمة المروعة في صبرا وشاتيلا محفورة في ذاكرتي، أعيشها كل لحظة، وأنقل ما حدث لأبنائي وكل من عرفني وصادفني، فالمجزرة ارتكبت عن سبق تخطيط بعد خروج المقاومة الفلسطينية من المخيم".
في بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية ــ انتفاضة الأقصى ــ التي اندلعت في 28 أيلول/ سبتمبر 2000كانت الشاعرة كنعان تظهر على الفضائية الفلسطينية لقراءة بعض من شعرها الوطني، فشاهدها أحد جيرانها وعرفها من الاسم بعد أن ظن الجميع أنها استشهدت، وأخبر ابنتها أن أمها ما زالت على قيد الحياة، وتعيش في غزة، وجرى بعد ذلك بينهما اتصال هاتفي هو تعارفهما الأول بعد 22 عامًا من الفراق واللوعة التي لا تتوقف، وقد كانت المكالمة مؤثرة جدًا، وتمنت كل منهما خلالها اللقاء القريب والعودة إلى فلسطين ولملمة شتات الشعب الفلسطيني:
بنيتي كنت أراكِ في عيون البرتقال. ألقاكِ في أحلامي
تنثرين عطرك على وسادتي
تعالي يا ابنتي. تعالي يا ابنتي. تعالي...
وبعد ذلك احتضنت الشاعرة ابنتها ميمنة بعد 24 عامًا من البعد وعلى الهواء مباشرة على إحدى القنوات العربية التي جمعتهما معًا، وكان اللقاء لا يشبه أي لقاء، فيه من البكاء والصراخ والحنين، ووجع الفراق والمجازر والمنافي ما يهزّ العالم بأكمله، وما يلخص كل جرائم الاحتلال وداعميه:
سامحيني يا سوسنة عمري. كبرتِ بعيدة عن حضني
يا أجمل هبة من السماء. يا أغلى عطاء.
في عام 2012، حضرت ميمنة من لبنان إلى غزة لزيارة والدتها عبر الأنفاق الممتدة أسفل الحدود المصرية مع القطاع، وعاشت آنذاك تفاصيل الحرب التي أطلقت عليها إسرائيل عملية "عمود السحاب"، والتي استمرت لثمانية أيام، لتعود بعدها إلى عائلتها في لبنان.
كتبت الشاعرة رحاب كنعان دواوين شعرية عديدة منها: مملكة التنك ــ شاهد على التاريخ ــ جمهورية الثوار ــ بغداد يا توأم فلسطين:
لم تكن المرة الأولى في خندق واحد
ولن تكون آخر مرة
تتوحد جراحنا 
تزرع في صدور البلابل
لحن الانتصار...
إضافة إلى ديوان "البسمة المجروحة وتل الزعتر"، وديوان "الشمس القتيلة":
قالوا لملم بقاياك. حان الرحيل
سمعت صوتًا يردد
يا وحدنا بالأكفان. لا تتركونا بالميدان...
كانت تكتب لمجلة "أشبال" الفلسطينية التي تُعنى بشؤون الطفل زاوية بعنوان "رسالة أم فلسطينية". كما شاركت في عدد من الندوات الثقافية والأمسيات الشعرية والأنشطة الخاصة بفلسطين، وتمّ تكريمها في عدد من المناسبات، وكتبت مسرحية "عرس الشهيد ماهر"، ورواية عن الحصار في لبنان، وقصائد لم تجد طريقها للنشر، إضافة إلى كتابها "مجازر الفلسطينيين في لبنان"، وهو شهادة ووثيقة من قلب النار على ما ارتكبه الاحتلال الإسرائيلي والمتواطئين معه ضد الفلسطينيين في المخيمات.
لعبت دورًا هامًا في النضال الفلسطيني، وتجلّت في شعرها صورة المرأة الثائرة والمجاهدة، وأم الشهداء والمناضلين:
بما أرثيك يا ولدي بعدما اغتالوا الكلام
وأنت لم تزل على صدري وبين خفقات
قلبي تنام...
إضافة إلى صور الأسرى والمعتقلين الذين يشبهون شموخ اللوز، كما كانت تقول:
مهما تجبّر السجان. فها أنا ذا يا أماه. أعانق طيفك
أصنع عطرًا لك من حنايا أحلامي الموجوعة
وأتوق لأحضانك الموجوعة...
هي أم وأخت وابنة الشهداء، وشاعرة الحنين وأوجاع فلسطين، وهي من "ماجدات الثورة" كانت ولا زالت تقول: "إسرائيل مجرمة، وتتحمل المسؤولية عما ارتكبته من جرائم بحق شعبنا، وينبغي أن تحاكم مهما يمرّ الزمان".

مراجع:
ــ بوابة أدب عربي.
ــ بوابة فلسطين.
ــ بوابة شعر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.