}

الأغاني الشعبية: ذاكرة الفلسطينيين ونضالاتهم

سمر شمة 9 يونيو 2024
استعادات الأغاني الشعبية: ذاكرة الفلسطينيين ونضالاتهم
الأغنية الشعبية الفلسطينية عبارة عن ألحان فطرية (Getty)
تُعبّر الشعوب في مختلف أرجاء العالم عن موروثها الثقافي بأساليب مختلفة أهمها التراث الشفوي المتمثل بالأغاني والأمثال الشعبية والقصص والحكايات، وتُعد الأغاني الشعبية والتراثية أكثر مواد هذا التراث انتشارًا، وهي توثق بكلماتها وإيقاعاتها الموسيقية جزءًا هامًا من ثقافة وتاريخ وعادات هذه الشعوب، وغالبًا ما تنتشر بين طبقات المجتمع المتوسطة والبسيطة، كالعمال والفلاحين والصيادين وساكني الأحياء الشعبية.
ويُعد الفولكلور الشعبي الفلسطيني مرآة تعكس حياة الشعب الفلسطيني المادية والروحية التي تداولتها الأجيال وتوارثتها جيلًا بعد جيل، ويُشكل إحدى دعائم الثقافة والهوية الوطنية.
أما الأغنية الشعبية الفلسطينية فهي أحد عناصر التراث الهامة، والتي تعبر عن تاريخ فلسطين، والقضية الفلسطينية، وعن مواطن الألم ومحطات العذاب التي عاشها شعبها، وتصور العادات والتقاليد وأساليب الحياة ومقاومته لكل الظروف القاهرة التي رافقت حياته منذ بدء الاحتلال البريطاني، ثم الصهيوني وحتى الآن.
وثّقت الأغنية الشعبية الأحداث في فلسطين، ونقلت عبر النص الشعري واللحن الموسيقي صمود شعبها ووقوفه في وجه كل المحاولات الساعية لتهويد البلاد، وروت بكلمات بسيطة ومتداولة حكايا الأبطال والفلاحين والنساء والأطفال والرجال، وكل ما ارتكبه الغزاة من جرائم وهمجية في أرجاء فلسطين.
تمتاز الأغاني الشعبية في أنها يجب أن تكون شائعة وتنتقل عن طريق الرواية الشفهية، وتبلغ أوج ازدهارها في الأوساط الشعبية، كما أنها تحافظ على الأسلوب الموسيقي الذي تستخدمه بالقياس إلى غيرها من أنواع الأغاني، وتتصف أيضًا بالمرونة والديمومة، وبأن أسماء الذين ألفوها مجهولة، عدا المحترفين الذين يغنون الأغاني والمواويل الخاصة بهم لمؤلفين معروفين.
وهنالك عوامل كثيرة ساهمت في انتشارها بين كافة قطاعات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج بعد النكبة والنكسة منها: وحدة الظروف والحيثيات التي عاشها شعب فلسطين من قهر وغربة ومعاناة وتهجير ونزوح وتوق للحرية والاستقلال، إضافة إلى الدور الذي لعبته وسائل الاتصال المتطورة دائمًا، بدءًا من إذاعة فلسطين، وصولًا إلى القنوات التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي، وظهور موهوبين ومبدعين في مجال هذا النوع من الغناء، والذي حوّل هذه الأغنية إلى شكل من أشكال مقاومة الاحتلال والتمسك بالهوية الوطنية.
اختلفت الآراء وتعددت حول تاريخ بداية هذا النوع من الفن الشعبي، غير أن هنالك من أكدّ من الباحثين والنقاد بأنه مصاحب للإنسان منذ آلاف السنين، ويتطور من مرحلة لأخرى مع بقاء جوهره، وأن الأغنية الشعبية الفلسطينية قد تكون بدأت منذ العهد الكنعاني، أو الفرعوني، أو زمن الاحتلال البريطاني، وقد تكونت في البداية نتيجة للعادات والتقاليد الاجتماعية المختلفة، كعادة تفضيل تزويج الفتاة من ابن عمها:
ابن العم يا توبي عليّا
إن مال الموت لا رده بأيديّا.
أو تزويجها طمعًا بالمهر والمال من غيره:
يا ابن العم يا كومة ترايب
بنات العم أخذوهم الغرايب.
وهنالك أنواع لهذه الأغنية تتجلى في:
ــ الموال: وهو فن غنائي شعبي ينتشر في معظم الدول العربية، ويضم: الموال البغدادي: وهو يتكون من أربع أبيات متحدة القافية.
والموال الأعرج: ويتكون من خمسة أبيات متحدة القافية ما عدا البيت الرابع الذي يكون على قافية مخالفة.
والموال النعماني: ويتكون من سبعة أبيات، ويسمى أيضًا السبعاوي. وقد ارتبطت المواويل الفلسطينية قديمًا وحديثًا بالقضايا الوطنية والاجتماعية، وبمضامين ملتزمة بهموم الناس وتطلعاتهم، واستخدمت فيها كثير من الرموز والمفردات المتعلقة بالمسيرة الكفاحية للشعب الفلسطيني، كمفتاح العودة، والبارودة، والكوفية، والزيتون.




وبرز في المواويل والزجل الشعبي الفلسطيني العتابا والميجانا و"الحِدا"، ومن أشهر الفنانين في هذا المجال الفنان يوسف علي حسونة المسمى حادي فلسطين:
حياكم الله ومرحبا
جينا على اسم الفدا
بشمالنا غصن الزتون
البندقية باليمين.
وعُرف أيضًا في المواويل الفلسطينية الفنان الشعبي "أبو عرب" إبراهيم محمد صالح، وهو شاعر ومنشد الثورة الفلسطينية الكبرى:
يا داري مهما طال البعد لا جي
ما عدت أنا أعيش باسم لاجي
لا بد ما نعود لو طال الغياب.
وقد غنى أغنيات شهيرة إلى جانب المواويل منها: 
هدي يا بحر هدي طولنا في غيبتنا
ودي سلامي ودي للأرض اللي ربتنا.
وعُرف أيضًا في كتابة المواويل والشعر الشعبي الفلسطيني الشاعر نوح إبراهيم، المولود في حيفا. ومن أشهر قصائده ومواويله: 
من سجن عكا طلعت جنازة
محمد جمجوم وفؤاد حجازي
جازي عليهم يا شعبي جازي
المندوب السامي وربعو وعموما.
الجدير ذكره أن الأغنية الشعبية الفلسطينية بأنواعها المختلفة تناولت في موضوعاتها كل ما يتعلق بحياة الفلسطينيين ومشاعرهم وأحلامهم ومواقفهم، واعتزازهم بأبطالهم وشهدائهم، وتمسكهم بأرضهم وحريتهم، رغم الاعتقالات والأوجاع وظلمة السجون، كما رفضت هذه الأغنية الانتداب البريطاني، ودعت إلى مقاومة مخططاته، وذلك منذ الإعلان عن وعد بلفور 1917:                                                         
بلفور وعدك مش على حساب
الضحايا المقتولين
يا حلالي يا مالي.
وهنالك أغان شعبية للطفولة وأعياد الميلاد، والحب والغزل والقتال والحث على العمل، والحزن والرثاء، وقطاف الزيتون:
زيتونا حامل والزيت ينقط فيه
زيتونا يا وحداني يا رب كتّر فيه.
وأغاني الحصاد والحصادين:
يا زرع قطفتو والندى عليه
يا سامي ندهتو واسم الله عليه.
وأغاني للفلاحين الذين يتعبون من الحصاد:
بكره بتخلص الحصيدة
والموارس والنمور
تنلبس الثوب المطرز
ونقعد في القصور.
وأغاني العتابا:  
 يا بلادنا يا أم العنب والزيت
يا بلاد الغرايب كيف بدنا نبيت
في بلاد الغرايب كيف بدنا نعيش.
وأغاني الزفاف، وهي أهازيج وأغان خاصة بالأعراس، وقد دخلت عليها بعد النكبة كلمات جديدة من روح الثورة:
هز الرمح بعود الزين
وأنتوا يا نشامى منين
إحنا شبابك فلسطين
والنعم والنعمتين.

الشاعر الفلسطيني نوح إبراهيم

إضافة إلى الأغاني الدينية، وتتصل في جوهرها بالمعتقدات الدينية المتأصلة في ضمير المجتمع، ومنها أغاني مولد النبي (ص)، والهجرة، والحج، وغيرها:
يا سامعين الصوت صلوا على محمد
كل الدنيا تصلي على محمد.
هنالك أغان شعبية اشتهرت أكثر من غيرها، ورددها الناس في فلسطين والمخيمات والدول العربية، وهي مستمدة من قصص حقيقية، ومنها:
يا ظريف الطول وقف تا قولّك رايح عالغربة
وبلادك أحسنلك
خايف يا ظريف تروح وتتملك
وتعاشر الغير وتنساني أنا.
هذه الأغنية تحكي عن "زريف الطول"، كما تنطق باللهجة المحلية، الشاب فارع الطول، الشجاع والطيب والصادق، والذي استشهد ثلاثة من شباب قريته على يد العصابات الصهيونية أثناء الانتداب البريطاني، فتسلل من القرية وعاد إليها بعد أيام ومعه أسلحة اشتراها ووزعها على شبابها، وعندما عاد الصهاينة إليها واجههم ببسالة مع رفاقه في معركة طاحنة استُشهد فيها عدد كبير من الفلسطينيين، كما قتلوا عددًا كبيرًا من الصهاينة، واختفى ظريف الطول بعد ذلك، وأصبح أسطورة يتحدث عنها الناس:
 يا ظريف الطول غايب عن الأوطان وغيابك عنا
ملّى القلب أحزان
ارجع لأهلك وارجع للحنان
ما تلقى الحنيّة غير في بلادنا.
وأغنية "جفرا وهيا الربع":  
جفرا يا هالربع نزلت على العين
جرتها فضة ودهب وحملتها للزين...
وهي عن الفتاة جفرا من إحدى قرى الجليل، التي تزوجت ابن عمها رغمًا عنها عام 1939، ولكنها تركته بعد أسبوع، وأجبره أهلها على طلاقها فكتب عنها الشعر، واختار أن لا يناديها باسمها الحقيقي "رفيقة" بسبب العادات والتقاليد، ولأنها متزوجة من رجل آخر، وسماها جفرا، وهذا الرجل هو الشاعر أحمد عبد العزيز الحسن.
أما الأغنية الشعبية "من سجن عكا طلعت جنازة"، والتي ذكرناها آنفًا، فقد انتشرت في كل ربوع فلسطين والدول العربية، وغناها كثير من الفنانين والفرق الفنية الفلسطينية، وهي تتحدث عن الاحتجاجات الشعبية التي جرت في حزيران/ يونيو 1930 في مدينة عكا، وقادها ثلاثة شبان من الثوار الفلسطينيين، وقد أعدمهم الاحتلال بعد اعتقالهم لترهيب السكان ومنعهم من المقاومة، فخلدت هذه القصيدة المغناة حكايتهم: 
محمد جمجوم ومع عطا الزير
فؤاد حجازي وعز الدخير
انظر المقدر والتقادير
بأحكام الظالم تايعدمونا.
وهنالك أغان شعبية أخرى شهيرة، مثل "عالأوف مشعل"، التي تحدثت عن الشاب الفلسطيني الذي رفض التجنيد الإجباري أيام الاحتلال العثماني لبلاد الشام وفلسطين، ولكن تم اعتقاله ولم يعد إلى أهله ومدينته أبدًا.




تُعد الأغنية الشعبية الفلسطينية من أهم وأشهر الأنماط الشعبية السائدة في فلسطين منذ القرن الماضي، وقد استجابت لتطورات الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في البلاد، وتطورت أيضًا منذ بداية القرن العشرين حتى الآن، أي منذ بداية الاحتلال البريطاني، ثم النكبة، ثم الثورات والانتفاضات الشعبية، ولعبت دورًا كبيرًا في بث الحماسة ضد المحتل، وشكلت جزءًا مهمًا من تراث الفن الفلسطيني.
وبعض الأغاني خضع للتطوير والإنعاش على أيدي الشباب الفلسطيني المعني بإحياء هذا التراث الغني والعريق، كالفنانة دلال أبو آمنة، وريم تلحمي، وشادي زقطان، وغيرهم.
ومرت الأغنية الشعبية في فلسطين بثلاثة مراحل:
ــ المرحلة الكلاسيكية: وكانت تتمحور حول مفاهيم طبقة الإقطاع السائدة في ذلك الوقت، وكان الدين والقضاء والقدر والقناعة بالواقع موضوعها وأقصى ما تقدمه للفلاحين والفقراء والحرفيين:
أيام بناكل خل
أيام ننام ع السرير
أيام بنلبس حرير
أيام بنلبس فل.
ــ المرحلة الرومانسية: وجاءت بعد سقوط الإقطاع ونشوء البرجوازية التجارية:
من بعد هشيم العظام
ليش التقطيب. بتقطبوني يا ناس
أنا أصلي كنت طبيب
فتشت بالجسم لقيت جرح بلا تقطيب
كل ما أخيط دوايره يفلت مني ولا يطيب.
ــ المرحلة الواقعية: وجاءت نتيجة لتطور الصراع في فلسطين مطلع القرن العشرين، وبداية الثورات الشعبية الوطنية ضد الاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية:
مهما طال الليل وطال
وغطى سواده ع الأطلال
عنا في الوطن أبطال
بتعيد شمس الحرية.
وكما ذكر المختصون في الموسيقى، فإن الأغنية الشعبية الفلسطينية عبارة عن ألحان فطرية لا أثر فيها لصنعة متعمدة، ولا كلفة فيها ولا تكنيك، وهي قصيدة شعرية ملحنة على جرس موسيقي واحد، مجهولة المؤلف، منتشرة ومتداولة، ويتم التعديل عليها من دون تغيير جوهرها، ويمتاز اللحن الموسيقي فيها كما ذكروا بقصر الجمل الموسيقية، والطابع المقامي، فمعظمها مبني على المقامات العربية، ومقام البيات هو المسيطر على أغلبها، يليه مقام راست، ثم سيكا، ومقام الحجاز، وغيره من المقامات:

شادي زقطان من الشباب الفلسطينيين الذين يقومون بإعادة إحياء التراث في قالب تجديدي

يا يما في دقة ع بابنا
يا يما هاي دقة أحبابنا
يا يما هي دقة قوية
يا يما دقة فدائية.
وقد غنى عدد كبير من الفنانين الفلسطينيين الأغنية الشعبية بأنواعها المختلفة، منهم على سبيل المثال لا الحصر: موسى حافظ موسى رفاعي أبو لبدة، الشاعر والفنان الشعبي الذي ولد في مخيم جنين، وحصل على شهادة الدكتوراة الفخرية في التراث الشعبي من منظمة اليونسكو العالمية عام 2000، وزيد تيم أحد أهم حراس التراث الشعبي الفلسطيني، الذي ولد في مخيم حمص السورية بعد هجرة عائلته من قرية الشجرة في طبريا عام 1948، وسناء موسى المولودة في قرية دير الأسد بالجليل، وغيرهم من الفنانين والفنانات.
يُعد الفولكلور الفلسطيني التاريخ غير المكتوب للحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للفلسطينيين، وقد استطاعت الأغنية الشعبية على مرّ العقود تجسيده بأبسط لغة ممكنة، وبأكثر الألحان الموسيقية مرونة وقربًا من الناس.
واليوم، وبعد مرور مئات الأيام على العدوان الإسرائيلي وحرب الإبادة الجماعية في غزة، والقتل والتدمير واستباحة البشر والحجر وبيارات فلسطين الجميلة وسمائها وبحرها وبرها وأرواح أهلها وساكنيها ودموع الأمهات والأطفال وأوجاعهم وأحلامهم وألعابهم ومنازلهم، يطرح السؤال نفسه بقوة: هل ستستطيع الأغنية الشعبية الفلسطينية التي غنت لغزة وصياديها وفلاحيها ومقاوميها وأهلها الكرام الصابرين الأشداء أن ترصد ولو القليل مما جرى بعد السابع من أكتوبر العام الماضي من مذابح ووحشية، وأن تحكي عن البطولات الاستثنائية لشعب لن يموت، وأرض هي: "سيدة الأرض. أم البدايات والنهايات. كانت تسمى فلسطين. صارت تسمى فلسطين".

مراجع:
ــ بوابة فنون.
ــ بوابة فلسطين.
ــ مركز المعلومات الوطني الفلسطيني ـ وفا.                        

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.