}

"دفاتر فلسطينية": كتاب غزة القديم ــ الجديد

راسم المدهون 8 يوليه 2024
استعادات "دفاتر فلسطينية": كتاب غزة القديم ــ الجديد
معين بسيسو (10 أكتوبر 1926 - 23 يناير 1984)
في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، ظهرت كتب ومذكرات شخصية تناولت بصورة مباشرة أحداثًا هامة من التاريخ العربي وقعت قبلها بعقدين أو أكثر. ونتذكر في هذا المقام كتابين على درجة من الأهمية: "الأقدام العارية" للكاتب المصري طاهر عبد الحكيم، و"دفاتر فلسطينية" للشاعر والكاتب الفلسطيني معين بسيسو. وبين الكتابين قاسم مشترك هو تسجيل تجربة الاعتقال في مصر زمن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وإن تفرّد كتاب بسيسو بتسجيل تلك الوقائع التاريخية، ومعها بالذات تجربة الشيوعيين والوطنيين الفلسطينيين في مواجهة "مشروع توطين سكان مخيمات غزة" في صحراء سيناء.

إنها محطة كبرى جسدت وقتها أول انتفاضة شعبية ضد بدايات السعي الأميركي للتخلص من مأساة اللاجئين الفلسطينيين، كونهم الشاهد الأهم على نكبة 1948، وصاحب المصلحة الحقيقية في التغيير، ورفع الظلم، ولأن قضية فلسطين خطر يثير قلق صناع السياسة في الغرب الأميركي ــ الأوروبي، من فشل سياساتهم التي كانت تسعى بجدية للتخلص من قضية فلسطين، وكأنها لم تكن.



في الرواية التاريخية المعروفة أن موظفة فلسطينية في المكتب الرئيسي للأمم المتحدة في قطاع غزة عثرت على وثيقة تتحدث صراحة عن مشروع لتوطين لاجئي القطاع في شبه جزيرة سيناء. وقيل يومها إن وزير الخارجية المصري في تلك الأيام محمود فوزي قد وقع على تلك الوثيقة بالأحرف الأولى، تمهيدًا للتوقيع الكامل، ومن ثم المباشرة في تنفيذها.
كان عنوان الانتفاضة الأهم هو رفض التوطين في سيناء، أو في أي مكان آخر، وكانت ساحاته تكاد تتركز في مواجهة مؤسسات "وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" (الأونروا)، والتي كانت مؤسسات خدمية منتشرة في مخيمات القطاع من شماله إلى جنوبه، والتي قام المتظاهرون بتحطيم مكاتبها وإحراق بعضها على مدار أيام، انتهت بإعلان الحكومة المصرية عن قرار اتخذه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر برفض مشروع التوطين، والإفراج عن كل الذين تم اعتقالهم خلال الانتفاضة.




هذه الانتفاضة المشرقة وطنيًا، والتي تناولها معين بسيسو في "دفاتره الفلسطينية" جعلت "الدفاتر" وثيقة تاريخية، فكرية وسياسية، على درجة كبرى من الأهمية، حيث احتلت مكانها البارز في وعي أهل قطاع غزة، من لاجئين ومواطنين على السواء، لكنها من جانب آخر وضعت من قادوا تلك الانتفاضة في مرمى التنكيل، حيث شهد القطاع بعد الانتفاضة بوقت قصير اعتقال أعضاء وأصدقاء "الحزب الشيوعي في قطاع غزة"، واحتجازهم في "معتقل الواحات"، جنبًا إلى جنب مع زملائهم من الشيوعيين المصريين.
في "دفاتر فلسطينية"، يفتح بسيسو صفحات ذاكرته الشخصية لصور القمع والتنكيل الذي عاشه أولئك المعتقلون بعيدًا عن بلادهم، وفي عتمة صمت عربي ودولي عنهم وعما يجري لهم، وسنرى في صفحات الدفاتر وسطورها أن أيام الانتفاضة الصاخبة حملت بذور وعي جديد راح يسري في مدن وقرى ومخيمات قطاع غزة، وسيكون له أثره العميق والجدي على ما شهده القطاع لاحقًا:
"كان علينا أن نذهب إلى المخيمات، وإلى الفلاحين، الذين تحولوا إلى "متسللين"، وكانوا من فلاحي غزة. كان الواحد منهم حين يرى الزرع ينمو في أرضه، وراء الأسلاك الشائكة، يمضي ويقص بأصابعه الأسلاك ويذهب لزرعه".
في واحد من فصول الدفاتر الأجمل، يتحدث الكاتب عن الشيخ محمد خلوصي بسيسو، فيقول إن الشيخ كان يرفض نشرة الحزب "الشرارة" علنًا، ولكنه يقرأها سرًا، ويهمس لصديقه جعفر فلفل بإعجابه، وكيف أن الشيخ أهداه كتاب ابن حزم "طوق الحمامة"، مخطوطًا، وقال: إقرأ ابن حزم، وسوف تفرح كثيرًا، لا توجد أبدًا قضية بدون عشق، ولا ثورة بدون فرح.
اللافت أن الشاعر معين بسيسو، وفي سياق تهكمه على جهاز المباحث العامة الذي كان مكلفًا باعتقال الفلسطينيين والتنكيل بهم، أشار إلى أنه صادر كتاب "طوق الحمامة" بسبب أنه مكتوب بخط اليد، أي أنهم فهموا أنه "وثيقة سرية" لا يجوز السكوت عنها.
يلاحظ من يقرأ "دفاتر فلسطينية" اليوم، وبعد عقود من صدورها لأول مرة، أنها تشكل بعض أهم وأجمل ما أبدعه الشاعر الراحل معين بسيسو، فهي إلى جانب مسرحياته، وكتبه النقدية، مزجت بين الروح الشعرية وما حملته من لغة خاصة ومشبعة بالدلالات لم تزل إلى اليوم بعيدة ــ إلى حد كبير ــ عن التناول النقدي بما تستحقه، خصوصًا أن "الدفاتر" هي (تقريبًا) المساهمة الأدبية الوحيدة التي قدمت سردية واقعية لما حدث في قطاع غزة في سنوات الخمسينيات، وأضاءت جانبًا على درجة كبرى من تاريخنا الوطني بوقائعه وأحداثه، ومن ساهم في تلك الأحداث من رجال سياسة ينتمون في أغلبهم لصفوف الشعب البسيط، وصاحب المصلحة العليا في تحقيق إنجاز وطني حقيقي.
إن كثيرًا من فصول "دفاتر فلسطينية" يقف في مقام الشعر، تمامًا كما هي "لوحات" مسرحيته الشعرية الهامة والمميزة "ثورة الزنج"، التي كتبها وعرضت على خشبة المسرح مع انطلاقة الكفاح المسلح الفلسطيني بعد هزيمة الخامس من حزيران/ يونيو 1967، وحققت نجاحات كبرى سياسيًا وفنيًا على حد سواء.
أثار صدور "دفاتر فلسطينية" جدلًا كان عاصفًا في حينه، وهو جدل انصب بالذات على فكرة أن الكتاب إذ يثير أخطاء وخطايا زمن جمال عبد الناصر فهو "يخدم خصومه" السياسيين، وقد نالت الدفاتر في هذا المجال ما ناله كتاب طاهر عبد الحكيم الشهير أيضًا "الأقدام العارية"، ومع ذلك فإننا اليوم وبعد عقود من صدور الكتابين نرى أنهما أسهما كل بدوره في تقديم قراءات واقعية للسياسة العربية في مراحل هامة من تاريخنا.
يمكن من خلال "دفاتر فلسطينية" قراءة سطور الحياة القاسية وغير العادية التي عاشها أبناء قطاع غزة، والتي أسهمت بعد ذلك في مشاركتهم الواسعة في الثورة الفلسطينية والكفاح المسلح في القطاع ضد الاحتلال الثاني، ثم بعد ذلك في تفجير الشرارة الأولى لانتفاضة فلسطين الكبرى أواخر عام 1987، انطلاقًا من مخيم جباليا، أكبر مخيمات اللاجئين في القطاع.
أجمل ما في هذه الدفاتر كوثيقة أدبية وسياسية تاريخية هو ما قدمه معين بسيسو من وصف تفصيلي للتظاهرة الطلابية الكبرى التي انطلقت بعد الهجوم الإسرائيلي على محطة السكك الحديدية في مدينة غزة، والذي راح ضحيته المئات من الجنود المصريين والسودانيين والفلسطينيين. هو مشهد جارح، ولكن بسيسو صاغه بشكل فني مؤثر، وأتذكر اليوم أن معين بسيسو حين أهداني نسخة من الدفاتر لم ينس أن يقول لي حرفيًا: قل لفلان (وكان يقصد شاعرًا فلسطينيًا معروفًا) أن من لا يكتب نثرًا جميلًا لا يمكنه أن يكتب شعرًا جميلًا... وهي ملاحظة نراها ساطعة وفي مكانها، إذ أخذت "دفاتر فلسطينية" مكانتها كواحد من أجمل كتب النثر الفلسطينية التي صدرت في العقود الماضية، والتي تناولت الشأن الفلسطيني العام.
"دفاتر فلسطينية" كتاب غزة القديم – الجديد، وفيه صورة الوعي الصادق الذي تربى في مناخ المعاناة، وظروف العيش القاسية، وقارب الشعر بلغته التي مزجت الوصف الواقعي برؤى المخيلة، وصاغت من مشاهد القسوة حكاية الصمود الطويل بحثًا عن حياة حقيقية تحمل الأمل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.