}

عن فدوى طوقان: "أم الشعر الفلسطيني" و"زهرة البنفسج"

سمر شمة 9 يوليه 2024

قالوا إنها كانت تذرف دموع الأسى على مدينة نابلس القديمة قبل اشتداد مرضها عام 2003، حين شاهدت جيش الاحتلال الإسرائيلي يُمعن فيها هدمًا وجرفًا وتدميرًا. بكت لأنها لم تكن قادرة على أن تحمي مدينة الطفولة والذكريات ولا أن تكتب عن جبل النار وملكة فلسطين غير المتوّجة نابلس وعش العلماء كما أطلقوا عليها. والسؤال، كيف ستكون حالها اليوم لو شاهدت ولو من بعيد قطاع غزة وهو يباد بأكمله في جريمة همجية استباحت الأطفال والنساء وكبار السن والأطباء والصحافيين وكل ركن من أركانه، واستباحت نسيم بحره العليل ومياهه وحمضياته ومشافيه ومدارسه، وصبر أهله الأسطوري.
إنها الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان "أم الشعر الفلسطيني"، كما سمّاها محمود درويش، و"أم تمام" كما سمّاها شقيقها إبراهيم طوقان نسبة إلى الشاعر أبي تمام، أحد أمراء البيان، و"زهرة البنفسج" و"الزيتونة المباركة" كما لقّبها آخرون.
هي واحدة من أبرز الشاعرات الفلسطينيات في القرن العشرين، عاشت بين حربين عالميتين فلما فتحت عينها على الحياة وجدت الاحتلال البريطاني في أرضها، وبعده الاحتلال الإسرائيلي، فقاومت وساهمت كعدد كبير من الأديبات الفلسطينيات في الدفاع عن فلسطين وفي الحثّ على المقاومة وانتزاع الحقوق، وذلك من خلال الأعمال الشعرية والنثرية والتي وصلت للعالمية وتُرجمت إلى لغات كثيرة كالإنكليزية والإيطالية والألمانية والفرنسية والعبرية، وغيرها.
ساهمت في إثراء الثقافة الفلسطينية وهي تُمثّل رمزًا شعريًا نسويًا ومن أوائل من نظم الشعر الحر، وكما هو معروف فإن لائحة الشعر الفلسطيني تزخر بأسماء شاعرات وأديبات فلسطينيات كبار، لعل من أبرزهن فدوى طوقان موضوع مقالة اليوم ضمن سلسة أديبات فلسطينيات.
وُلدت في مدينة نابلس إحدى أكبر المدن الفلسطينية عام 1917، تلقت تعليمها حتى نهاية المرحلة الابتدائية فقط وذلك بسبب العادات والتقاليد التي كانت تحاصر المرأة وضغوط أسرتها المحافظة، ولكنها لم تستسلم واستمرت بتثقيف نفسها جيدًا معتمدة على أخيها الشاعر إبراهيم الذي كان منقذًا دائمًا لها وساهم في تنمية مواهبها وساعدها في نشر قصائدها، إضافة إلى قراءة ودراسة كتب الأدب واللغة ودواوين الشعر الجاهلي والأموي، وغيره.
تعرضت منذ بداية حياتها للكثير من النكبات المفجعة حيث توفي والدها ثم معلمها وشقيقها إبراهيم وهو في ريعان شبابه، في العام 1941، وأعقب ذلك احتلال فلسطين بعد النكبة. هذا كله ترك أثرًا كبيرًا على شعرها ولكنه دفعها أيضًا للمشاركة في الحياة السياسية والعامة خلال الخمسينيات من القرن الماضي.
سافرت إلى لندن بداية الستينيات من القرن الماضي، وبعد نكسة حزيران/ يونيو 1967 خرجت من قوقعتها وحضرت المؤتمرات واللقاءات والندوات التي كان يعقدها كبار الشعراء الفلسطينيين.
ورغم معاناتها الكبيرة من عائلتها الإقطاعية المحافظة فقد كانت لها مساهمة كبيرة في المشهد الثقافي والسياسي والإجتماعي والوطني في فلسطين، وقد توفيت في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2003 إثر أزمة قلبية حادة في مسقط رأسها عن عمر ناهز 86 عامًا.
وقعّت الشاعرة طوقان قصائدها الأولى باسم "دنانير" وهو اسم جارية، ثم باسم "المطوّقة" نسبة إلى عائلتها وإشارة لما تعانيه من المجتمع التقليدي الذي يحاصرها رغم إصرارها على التمسك بحريتها:       
صوت أردده بملء فم الغضب
تحت الرصاص وفي اللهب
وأظل رغم القيد أعدو خلفها
وأنا أناضل داعيًا حريتي

بدأت شاعرة كلاسيكية ذات نزعة رومانطيقية، متأثرة بأخيها إبراهيم، ثم التحقت بشعراء التفعيلة، وما إن حلّت هزيمة 1967 حتى طرأ تحول واضح على شعرها، إذ التحقت بحركة الشعر المقاوم الملتزم بقضايا الشعب الفلسطيني في الداخل المحتل والمنفى، وقضت حياتها تناضل بأشعارها وأدبها من أجل حرية فلسطين وشعبها، وقد كُتب على قبرها قولها:كفاني أموت عليها وأُدفن فيها
كفاني أظل بحضن بلادي
ترابًا وعشبًا وزهرة

أصدرت خلال خمسين عامًا دواوين شعرية كثيرة نذكر منها: "وجدتها 1957 – أعطنا حبًا 1960 – أمام الباب المغلق 1976 – الليل والفرسان 1969 – تموز والشيء الآخر 1989 – اللحن الأخير 2000". وديوانها الأول "وحدي مع الأيام"، 1952، وقد ارتكز النص الشعري فيه على الذاتية، وعبّرت الشاعرة في قصائده عن شعورها بالضياع والحيرة وشوقها إلى المجهول: "نفس" موزعة، معذبة، بحنينها، بغموض لهفتها، شوق إلى المجهول يدفعها، مقتحمًا جدران منزلهًا.
حضرت القضية الفلسطينية حضورًا قويًا في شعرها وعبرّت عن ذلك من خلال موضوعات النضال والقومية والمقاومة وتفاؤلها الدائم بانتصار الشعب الفلسطيني على الاحتلال:
يا فلسطين اطمئني
أنا والدار وأولادي قرابين خلاصك
نحن من أجلك نحيا ونموت

وقد قال النقاد عنها في هذا المجال: "كانت قضية فلسطين تصبغ شعرها بلون قانٍ، ففلسطين دائمًا كانت وجدانًا داميًا في أعماق شاعرتنا، ولذلك يأتي شعرها الوطني صادقًا".
أما الشخصيات النسائية في شعرها فقد كانت تمثل نضالات المرأة الفلسطينية الجسام وصمودها، وارتباطها بأرضها، وتضحياتها الكبيرة:
يا كبدي
من أجل هذا اليوم
من أجله ولدتك
اذهب فما أعزّ منك يا بني إلا الأرض

كتب فدوى طوقان 


وكانت تُمثل أيضًا ثقافة المرأة والتحديات الاجتماعية التي تواجهها، وآلامها الناتجة عن الفقد والخيبة والظلم، لذلك كانت تدعو دائمًا إلى تحرر المرأة واحترام إبداعاتها ومواهبها منددة بكل مستبد حتى ولو كان والدها:
وإذا انشق باب سجني أطلت
منه عينا وحش رهيب كبير
هو جلادي اللئيم ربيب الحقد
والعنف والأذى والشرور

وكتبت الشاعرة قصائد في غاية الروعة في رثاء أخيها إبراهيم وقد شبّه النقاد ذلك بشعر الخنساء في رثائها لأخوتها:
أخ كان نبع حنان وحب
وكان الضياء لعيني وقلبي
وهبت رياح الردى العاتية
وأطفأت الشمعة الغالية
وأصبحت وحدي

في شعرها أيضًا موضوعات أخرى متنوعة، حيث كتبت قصائد عن الوحدة وسطوة المجتمع والحب ومعاناة الفقراء ومآسيهم:
كم بائس. كم جائع. كم فقير يكدح لا
يجني سوى بؤسه. ومترف يلهو بدنيا الفجور

وكتبت عن اللجوء وهموم اللاجئين واللاجئات وحياتهم المعيشية الصعبة:
وأراكِ ما بين الخيام قبعت تمثالًا شقيًا
متهالكًا يطوي  وراء جموده ألمًا عتّيا

وهناك قصائد عبّرت فيها عن إجراءات الاحتلال التعسفية وإذلاله المتعمّد للفلسطينيين ومنعهم من العبور إلى أي مكان، وعن الخسارات المستمرة والفقد والشهادة والسجون وحلم العودة إلى الديار:
أتغضب أرضي؟ أيسلب حقي وأبقى أنا
أأبقى هنا لأموت. غريبًا بأرض غريبة
أأبقى؟ ومن قالها؟ سأعود لأرضي الحبيبة

يتميز شعرها باستخدام الكثير من الصور الشعرية التي تُعتبر من أهم العناصر الفنية في العمل الأدبي، إضافة إلى التكرار الذي يُعد من الظواهر الأسلوبية والبلاغية في النص الشعري، والنداء والاستفهام الذي يطبع النص بدلالات نفسية وجمالية، والتضاد الذي يشكل محورًا أساسيًا في معظم أشعارها معبرًا عن واقع حياتها المليئة بالأحداث المتضادة والعواطف المتضاربة، والتعبير أيضًا عن بعض القضايا الوطنية والاجتماعية بلغة الرمز:
يوم فشا الطاعون في مدينتي
خرجت للعراء
مفتوحة الصدر إلى السماء
ولتنزل الأمطار
ولتنزل الأمطار

ويبدو واضحًا في شعرها العمق الفكري واللغة الشعرية الجميلة والمتقنة والانفعالية والإيقاع والقوافي، والتشبيهات والإستعارات المعبرة:
سأظل أحفر اسمها وأنا أناضل
في شرف المنازل
في السجن في زنزانة التعذيب في عود المشانق.

الجدير ذكره أن نتاج الأديبة فدوى طوقان لم يتوقف عند الشعر، فقد ألفّت كتابين: الأول "رحلة جبلية، رحلة صعبة" 1958 وهو سيرة ذاتية رصدت فيه تفاصيل حياتها ابتداء من مرحلة الاحتلال العثماني حتى الإسرائيلي، ولم تدوّن فيه حياتها الشخصية فقط، بل قامت بجهد يمكن تصنيفه كأحد أشكال التأريخ الاجتماعي لمدينة نابلس، بما فيه من تفاصيل الحياة النسائية والاجتماعية داخل أسوار الأسر الإقطاعية الفلسطينية التي تحارب حرية المرأة وانخراطها في الشأن العام: "حظيرة كبيرة، تملؤها الطيور الداجنة، يُلقى إليها بالعلف دون نقاش، راضية قانعة به، وكأن ذلك غاية الغايات ونهاية النهايات". وقد عاشت الأديبة في هذا الكتاب ثنائية القمع والتمرد، واستخدمت فيه ألفاظًا لاذعة وغاضبة.
والكتاب الثاني: "الرحلة الأصعب" وقد أعربت فيه عن تحول كبير عاشته من فتاة لا تملك القرار في الخروج من المنزل إلى فتاة تعيش بمفردها في الأربعينيات من عمرها. وظهرت فيه مكتملة النضج الفكري واضحة الملامح، شاعرة سياسية ملتزمة ذات مواقف وطنية واضحة، وتحدثت خلاله أيضًا عن مقابلاتها مع الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات، ولقائها مع موشيه ديان والرسالة التي طلب منها أن توصلها إلى ياسر عرفات.
وقد قال بعض النقاد عن سيرتها الذاتية التي كتبتها إنها تُعد من أجمل كتب البوح والاعتراف التي نُشرت في العقدين الآخرين، مؤكدين أن جرأتها تكمن في هذه السيرة في صدامها مع ذكورية مجتمع نابلس من خلال اعترافاتها بحياتها الغرامية.
نالت جوائز هامة وكثيرة منها: جائزة الزيتونة الفضية الثقافية لحوض البحر الأبيض المتوسط إيطاليا 1978 – جائزة عرار السنوية للشعر في عمان 1983 – جائزة سلطان العويس 1989 الإمارات العربية المتحدة – وسام القدس منظمة التحرير الفلسطينية 1990 – جائزة البابطين للإبداع الشعري الكويت 1994 – جائزة المهرجان العالمي للكتابات المعاصرة إيطاليا 2000- وسام أفضل شاعرة للعالم العربي الخليل.
استطاعت فدوى طوقان أن تكون رمزًا من رموز قضية فلسطين في جانبها الثقافي والنسوي، وشاعرة من أبرز شاعرات العالم العربي في القرن العشرين.

مراجع:
- بوابة شعر.
- بوابة أعلام.
- بوابة فلسطين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.