}

كرسي يخصّ المرء وحده

باسم سليمان 17 أغسطس 2024
هذا العنوان هو استعارة من الكاتبة الإنكليزية فرجينيا وولف (1882-1941) في مقالتها المطوّلة بعنوان: "غرفة تخصّ المرء وحده"، وفيها أطلقت جملتها النسوية الشهيرة: "إنّ النساء لكي يكتبن بحاجة إلى دخل ماديّ خاص بهن، وإلى غرفة مستقلّة ينعزلن فيها للكتابة". لم تكتف فرجينيا بالغرفة كرمز للحرية والعزلة، بل ذكرت الكرسي مرارًا في كتاباتها، فهي ترى فيه البيئة المفضّلة للكتابة والقراءة، ولا يجوز أن يٌقاطع من الغير من هو غارق في كرسيه، وكأنّها كانت ستقول: كرسي يخصّ المرء وحده! لقد ظهرت وولف في العديد من الصور واللوحات وهي تنبت من كرسيها كشجرة، حتى أنّها تعدّ الرجوع إليه دليل شفاء من مرضها: "لكنّني عدت مرّة أخرى، بعد شهرين، في هذا اليوم بالذات، أجلس على كرسيي بعد تناول الشاي، وأكتب". هذا الامتياز الذي منحته وولف للكرسي، لأنّه كان يفتح لها أبواب تيار الوعي. وكأنّ كرسيها سرير مارسيل بروست في غرفته المعزولة عن الأصوات بالفلين، مسترجعًا الماضي عبر الرائحة والأحلام.
هناك حكمة رومانية تقول إنّ المشاكل تحلّ بالمشي، وقد عبّر عنها الفيلسوف الأميركي إمرسون بقوله أنّ المشي عبر الغابات والجبال يمكّنه من الإنسلاخ عن جلده الذي شكّلته الثقافة، كما تنسلخ الأفعى من جلدها القديم، حيث يعود طفلًا أو لا شيء، ليرى كل شيء. لقد كان المشي عاضدًا للفكر البشري عبر التاريخ، حتى أنّ الفلسفة الرواقية لها تعالق لا ينفك مع المشي، فكلمة الرواق/ Peripatos وكلمة التحدّث أثناء المشي/ Peripatein من أرومة واحدة؛ فما الذي حدث حتى يصوّر النحّات الفرنسي رودان الإنسان المفكر جالسًا على مقعد يسند رأسه بيده غارقًا بأفكاره.
على الرغم من أنّ الكراسي متواجدة منذ التاريخ القديم للإنسان، حيث أبانت عن تواجدها اللقى الأثرية في بابل وبلاد الفراعنة والهند والإغريق وروما، بالإضافة إلى أنّ الاستعارة الدينية ذكرتها، فقد ذكر الكتاب المقدس، بأنّ "السماء كرسي الله"، وأن الرسل سيجلسون مع السيد المسيح على اثني عشر كرسيًا إلى جانبه وهو جالس على كرسي مجده، وفي القرآن الكريم جاء: "وسع كرسيه السماوات والأرض"، لكنّ الكراسي ظلّت رمزًا، كما في قصة عرش بلقيس والملك سليمان، واقتصر ذكرها على دلالتها الدينية والسياسية، لا الاستعمالية، فهوميروس لم يذكرها، ولا شكسبير، إلّا في إشارة إلى كيفية إخراج مسرحية "الملك لير"، وذلك بأن يدخل الملك محمولًا على كرسي، لكن فجأة مع تشارلز ديكنز في روايته "البيت الكئيب" ذكر الكراسي 187 مرّة، وبدأنا نراها في اللوحات الفنية كموضوع مستقلٍّ للفن وللاستعمال سواء بسواء. 
يُرجع المؤرّخون ظهور الكرسي في حياة الناس بهذه الكثرة إلى تأثير الثورة الفرنسية والإصلاح الكبير الذي حدث في إنكلترا عام 1832، حيث أصبح  للكرسي طابع ديمقراطي مع احتفاظه برمزيته السابقة الدينية والسياسية والعلمية، فأعلى مرتبة في التحصيل العلمي يتحصّل عليها الدارس كرسي دائم في مؤسسة علمية وتعليمية كبرى، لكن تدريجيًا بدأت قيمته الاستعمالية للجلوس بالظهور بقوة  بعيدًا عن رمزيته، نتيجة التطوّر التقنّي الذي أدّى إلى ظهور الوظائف المكتبية وما رافقها من كميات كبيرة من الكراسي، ممّا جعل استخدام الكرسي شخصيًا، وأصبحت ميزته الاستعمالية كمكان لممارسة العمل والتحدّث والتأمّل والاستراحة طاغية على رمزياته السابقة. ومن هذا المنطلق غدا الكرسي معطى جديدًا لزمننا، فأصبح من ثوابت أثاث البيوت والساحات وأماكن التعليم والسينما والمسارح والمقاهي والمستشفيات حتى في المقابر وفي كل مكان. وبناء على ذلك نستطيع أن نفهم لماذا نحت رودان الإنسان مفكرًا جالسًا على كرسي، وذكر ديكنز في روايته الكرسي كثيرًا، وكان قبل ذلك قد أورده الفيلسوف دنيس ديدرو (1713-1784) في موسوعته المعرفية، لأنّ الكرسي أصبح ميزة عصرنا الحديث. مهما أصبح الكرسي شأنًا عاديًا في حياتنا، إلّا أنّه يضمر الكثير من المعاني في لامبالاتنا نحوه واعتبارنا له مجرد أداة نستخدمها وننساها.  

كراسي النسيان والشهوة والامتحان والشجاعة 
كثيرًا ما يتم التندّر على طالبي السلطة، فما إن يجلسوا على الكراسي حتى ينسوا الشعب الذي أوصلهم لسدّة الحكم/ الكرسي. على الرغم من أن هذا هو واقع الحال من نسيان أصحاب السلطة لواجباتهم تجاه رعاياهم، إلّا أنّ هناك أسطورة أغريقية تحدثنا كيف نسي البطلان ثيسيوس وبيريثوس ما هبطا لأجله في مملكة هديس/ إله الجحيم في الأسطورة الإغريقية. لقد ماتت كل من زوجتي ثيسيوس وبيريثوس، فاختار الأول أن يخطف الجميلة هيلين لتصبح زوجته، لكن بسبب صغرها أودعها عند أمه إلى أن تكبر هذه الهيلين التي ستسبب فيما بعد بحرب طروادة، بعد أن يخطفها الأمير الطروادي بارس. أمّا بيريثوس فقد وضع عينه على زوجة هاديس بيرسفوني، وهكذا شقّ البطلان طريقهما نحو العالم السفلي، وما إن وصلا حتى استقبلهما هاديس بالترحاب مخادعًا حتى يتجنّب بطش البطلين، وأجلسهما على كرسيين. لقد كان الكرسيان يسبّبان النسيان، فلم يعد كل من البطلين يعرف لماذا جاء. تصوّر  إحدى اللقى الأثرية ثيسيوس يحدّق بسيفه وسيف صديقه ولا يفهم الجدوى من هكذا سلاحين، فقد أنساهما كرسي النسيان لماذا جاءا؛ لا ريب في أن كراسي الحكّام في زمننا تعود بجذورها إلى كراسي النسيان في جحيم هاديس. تمرّ الأيام ويأتي هرقل، فينقذ ثيسيوس، لكن عند محاولته تخليص بيريثوس من كرسي النسيان، تهتز الأرض بعنف شديد، فالإله هاديس لن يتسامح أبدًا بتلطيخ شرفه والصمت على من تجرأ واشتهى زوجته. قلنا إنّ الكراسي تسبّب النسيان، لأن شهوة الجلوس عليها تفوق أي شهوة أخرى، فلو عرف البطلان الإغريقيان ذلك لرفضا دعوة هاديس.

فيرجينيا وولف (Getty)

تحكي لنا الأسطورة الإغريقية بأنّ إله الحدادة هيفاستيوس كان معوقًا، أحنف القدم، ويقال، بأنّ سبب تشوّه رجله يعود إلى أنّ أباه زيوس رماه بصاعقة، بعدما دافع عن أمه هيرا في إحدى نوبات غيرتها من مغامرات زوجها زيوس العاطفية. ويقال بأنّ هيفاستيوس ولد من  محاولة من الإلهة هيرا أن تلد من دون تلقيح زيوس مقلّدة إياه عندما أنجب إلهة العقل والحكمة أثينا من رأسه، فكان أن أنجبت هيفاستيوس ذا الرجل المشوّهة. وفي كلتا الحالتين طرد هيفاستيوس من البانثيون السماوي الإغريقي لأنّه إله غير كامل. لقد كان هيفاستيوس مخترعًا عظيمًا أبدع لزيوس صاعقته، ولأثينا درعها، ولإله البحر رمحه، حتى أنّه أول من اخترع الروبوتات لمساعدته في ورشة الحدادة. وعلى الرغم من ذلك ظلّ مرفوضًا من أبويه وأخوته الآلهة، فما كان منه إلّا أن قدم لهم هدايا من بينها كرسي كالعرش لأمّه العاقة، فهو يعرف توقها لأن تكون بموازاة زيوس وأن تجلس على عرش، وما إن جلست عليه حتى لم تعد تستطيع النهوض عنه، وفشلت الآلهة بمساعدتها، لكن هيفاستيوس عرض مساعدتها على شرط أن يعود إلى البانثيون، وكان له ذلك وخصّ نفسه بذلك الكرسي. وبناءً على ذلك نستطيع أن نعد خدعة هيفاستيوس من أولى المناورات السياسية لتقاسم كعكة السلطة.
قد يكون كرسي البابا في روما أعظم كرسي في العالم الغربي، لكن هنالك قصة تنوس ما بين الخيال والواقعية أرعبت الكنيسة، فأخضعت البابوات لاختبار الجلوس على كرسي مقعده مثقوب، ومن ثم يأتي أحد المساعدين ويدس يده أسفل المقعد ويتحسّس ذكورية البابا. يعود حذر الكنيسة إلى واقعة جرت في ماضيها وذلك بأنّ أحد البابوات ويدعى جوان؛ قد كان أنثى متنكِّرة بالذكورة، استطاعت أن تتحايل على المنظومة الكنسية وحازت علومًا كثيرة وأصبحت علمًا في العصور الوسطى حتى أنّها جلست على كرسي البابا لمدة سنتين، لكن في عيد القديس بطرس ولدت طفلًا من علاقة أقامتها مع أحد الرهبان وإثر ذلك فضحت خدعتها، بالطبع القصة أقرب للخيال. تحمل هذه الحكاية التي ذاع صيتها في القرن السادس عشر سؤالًا مضمرًا عن أحقية الأنثى في أن تتسنّم منصب البابوية ما دامت قادرة على حيازة العلوم المناسبة، لا ريب في أنّ قصة حمل البابا جوان شطح يوازي جنون التأكّد من ذكورية البابا. ظهرت في أميركا حديثًا خرافة عن كرسي الشيطان، الذي لم يكن إلّا مقعدًا من الحديد أو الأسمنت أنشأه من يودّون أن يجلسوا قرب أمواتهم في المقابر ويحزنون عليهم، لكن الشباب المغامر بدؤوا بتحدي بعضهم البعض بالجلوس عليه ليلًا وشرب الجعة، من دون أن يسمحوا للشيطان أن يستحوذ عليهم، وكل ما يلزم هو أن يكون الشاب شجاعًا كفاية. إنّ هذه القصة صدى للمقولة التي تفيد بأنّ أميركا أرض الحلم، وما عليك إلّا أن تكون مغامرًا شجاعًا حتى تحقّق أحلامك فيها. ليس غريبًا أن تكون الكراسي مدار حكايا غريبة، فعبر جلوسنا عليها أبدعنا أكثر الخيالات إقدامًا ومغامرة وجنوحًا.

الكرسي إنسان 
لم يكن إدغار آلان بو رائدًا في فنّ القصة والأدب البوليسي فقط، بل كانت له رؤية في فلسفة الأثاث، إذ نشر مقالة في عام 1840 عبّر فيها عن فلسفته الخاصة في تجهيز البيوت. وقد حدّد في مقالته، كيف يجب أن تكون غرفة القراءة والكتابة، بدءًا من مساحة الغرفة إلى ورق الجدران، والباب الوحيد الضيق الذي يفضي إليها، مع  نافذتين كبيرتين وأريكة وطاولة مثمنة الأضلاع وكرسيين للمحادثة متقابلين، فهو يرى تأثيث البيت مثله مثل أي عمل فنّي آخر، يجب أن تتآلف عناصره كما في لوحة فنية.




كان بو في مقالته ينظّر لديكور لا يثقل على ساكن البيت ويجب أن يحدث  نوعًا من التناغم، بينه وبين شاغله، فالبيت كالجسد والساكن كالروح، لذلك انتقد البيوت الأميركية وأنّها تؤثّث استنادًا إلى أرستقراطية الدولارات، ومدح البيوت الإنكليزية كونها تؤثّث إلى العراقة والنبالة. من هذه الرؤية الإدغارية – نسبة إلى إدغار- سنقارب بعض الأعمال الفنية لرسامين مشهورين تناولوا الكرسي في لوحاتهم.
تعدّ لوحة الفنّان دييغو فيلاسكيز (1559- 1660)، رسّام البلاط الإسباني، من أوائل اللوحات التي جعلت من الكرسي/ العرش رمزًا مهمًا في عناصرها، فهو يصوّر الأمير فيليب الطفل الصغير ذا الصحة المعلولة والتي ترمز إليها التمائم المعلّقة على صدره، واقفًا بجانب الكرسي وهو يضع يده على مسند العرش الصغير بينما يستلقي كلب صغير على العرش. لقد ولد أميرًا ووضع يده على العرش لكنّ القدر لم يمهله ليجلس عليه. ما أراد الرسام قوله بأنّك قد تولد وملعقة الذهب في فمك، لكنّك قد لا تأكل بها.  
في لوحة أخرى للرسام الانطباعي إدغار ديغا يعرض في لوحة له كرسيًا أزرق من الخلف، فهو لا يستكشف فراغ الكرسي من الجالس عليه، وإنّما يذهب إلى أن كرسيًا فارغًا وقد أدار مسنده للرائي يحمل سرًا لا يمكن استكشافه، وما فراغه إلّا خدعة ينجزها شكل الكرسي، فهل الشكل وحده قادر على إعطاء المعنى؟ هكذا ترك إدغار المشاهد لظنونه وتأويلاته.
لعل أشهر اللوحات التي صوّرت الكراسي تعود إلى فان غوخ، وقد رسمها إبّان سكنه مع الرسام غوغان في البيت الأصفر عام 1888. رسم غوخ كرسيًا أصفر فارغًا إلّا من غليون قد ترك على مقعده. تعتبر هذه اللوحة دالة على بدء تدهور صحة غوخ العقلية، فهو يضع الغليون الذي نصحه غوغان بتدخينه ليخرج من كآبته على مقعد الكرسي مهملًا نصيحة صديقه ومحاولة الخروج من الكآبة. لقد رسم اللوحة مستلهمًا موت الكاتب تشارلز ديكنز، فقد نعت الصحافة غيابه بتصوير كرسي الكاتب فارغًا، وها هو كرسي الرسّام فارغ أيضًا.
تتالت اللوحات التي تجد في الكرسي موضوعًا لها، فقد رسم ماتيس كرسيًا وعلى مقعده صحن من الخوخ رافضًا فكرة أنّ الأشياء لا تتجاوز موضوع استخدامها. كذلك ذهب بيكاسو في نحته لكرسي بشكل تكعيبي للقول بأنّ الأدوات تتجاوز استخدامها والجمال استعمال آخر لها. ما زال كرسي بيكاسو صالحًا للجلوس غير المريح، لكنّه يملك بعدًا جماليًا ملهمًا وممتعًا عند النظر. يندفع الفنان آندي وارهول أبعد في قراءة الكرسي، قطعة الأثاث العادية جدًا في أي بيت، لكن لماذا استخدم كوسيلة للإعدام؟ يعرض وارهول في مطبوعته الكرسي الكهربائي حيث ينفذ حكم الإعدام. يقف وارهول ضد عقوبة الإعدام، لكن في الوقت نفسه يستحضر تاريخ العروش، فكم أصدر الملوك من أوامر قتل وهم جالسون! وكم مات من ملوك وأناس في السعي إلى الجلوس على كراسي العروش، وكأنّه يقول لنا: احذروا! ففي الأشياء العادية الكثير من العنف المضمر كل ما يلزمه مستصغر الشرر، حتى يتفجر، كسكين المطبخ على سبيل المثال. لو قدرنا عدد الكراسي لتجاوز عدد البشر بكثير، هناك طوفان من الأثاث المنزلي يكتسح الكوكب الذي كان أخضر، فهل حقًّا نحن بحاجة إلى هذا العدد من الكراسي. يقدم الفنّان الياباني تاداشي كواماتا في أعماله الفنية التجهيزية أفكارًا عن إعادة الاستخدام للأدوات التي نصنعها ومنها الكراسي، ففي أحد معارضه يصنع قبة كبيرة من الكراسي المتراكمة فوق بعضها البعض، ومن جميع الأنواع، وفي الداخل يضع كراسي وأرائك للجلوس، وكأنّه يقول في إعادة الاستخدام إعادة للحميمية والصلة مع بيئتنا التي نجتثها بالاستخدام المفرط. في كتابه "جماليات المكان" يرى غاستون باشلار أنّ الصدى القوي للمنزل الذي نشأ فيه كل واحد منّا يكمن إلى حدّ كبير في وظيفته باعتباره "مكانًا للراحة ولأحلام اليقظة" وأكثر من ذلك، "في كثير من الأحيان يكون مكان الراحة تحديدًا". يفترض باشلار أن ملجأنا الأصلي – البيت- وأثاثه لا يوفر الراحة فحسب، بل إنّه مسؤول عن حماية الأفراد أثناء تعلمهم استعراض قدراتهم الخيالية. لقد رأينا فيما استعرضناه أعلاه من كراس بأنّ تلك الحميمية التي تكلم عنها باشلار مفقودة فيها، من العرش الصغير للأمير فيليب إلى تجهيزات كواماتا، فنحن لم نعد نغرق في كراسينا كفرجينيا وولف. 

كراسي الحقيقة والوهم 
صمّم غوته كرسيًا مسنده من الأمام، لا الخلف، كرقبة الحصان، كان يركبه ليكتب وذلك ليخفف العبء عن فقرات ظهره المتعبة. وعلى سيرة الحصان يقول الشاعر الفلسطيني زكريا محمد الذي وافته المنية السنة الماضية بأنّ بيت شعر المتنبي: عَلى قَلَقٍ كَأَنَّ الريحَ تَحتي/ أُوَجِّهُها جَنوبًا أَو شَمالا، والذي يستشهد المثقفون فيه كثيرًا دلالة على قلقهم الوجودي، بأن كلمة (قَلَق) يجب أن تقرأ (قَلِق)، وقلِق بكسر اللام هو اسم حصان المتنبي الذي يوجهه كما يريد. وبناء على ذلك لربما استوحى غوته كرسيه من حصان المتنبي، وهو المطلع الجيد على الثقافة التراثية العربية، فكرسي غوته قَلِق.

إدغار آلان بو (Getty)

عندما أراد المسرحي يوجين يونسكو التعبير عن الإحساس بعبثية الحياة بعد حرب عالمية ثانية، كتب مسرحية "الكراسي" والتي تقدّم عجوزين ينتظران ضيوفًا، سيكون الإمبراطور أحد المدعوين، لكن لا نرى أحدًا من الضيوف، بل كراس فارغة تتكاثر على خشبة المسرح ومونولوغات متبادلة بين العجوزين. لقد قال يونسكو عن مسرحيته بأنّها مهزلة مأساوية، لأنّ الإنسان يبحث عن معنى لوجوده لكنّه لن يجده أبدًا. لقد استخدم يونسكو الكراسي لأنّها أصبحت أكثر الأدوات التي اخترعها الإنسان ترميزًا عنه! ألا تذكرنا مسرحية يونسكو بنعوة ديكنز وكرسي غوخ الأصفر، فكلاهما كان تعبيرًا عن الموت الذي يبتر أي معنى وجودي للإنسان، والكآبة الناتجة من الإحساس بعدم جدوى الوجود ذاته.
وأنا أكتب هذا المقال أجلس على كرسي وأفكر بفيلم The Matrix لعام 1999. ماذا لو عرض عليّ مورفيوس الحبة الحمراء/ الحقيقة ونقيضها الحبة الزرقاء/ الجهل، فأيًّا سأختار منهما؟ لقد تم تقديم هذا المشهد في الفيلم من خلال كرسيين يجلس على أحدهما نيو/ كيانو ريفز) والثاني مورفيوس/ لورانس فيشبون وعلى نيو أن يختار بين الحقيقة والوهم. لقد اختار نيو الحقيقة، أمّا أنا الذي أعيش في هذا الشرق المليء بالكراسي وعبادة الكراسي والذي كتب عنه القاص الكويتي طالب الرفاعي مجموعته القصصية "الكراسي"، سأحاول أن أنحت كلمة تمثل الحقيقة والوهم في كرسي واحد.

*كاتب سوري. 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.