}

محمد جُحا: أحاول طرح حكايات غزة بصريًا

أوس يعقوب 1 أكتوبر 2020
حوارات محمد جُحا: أحاول طرح حكايات غزة بصريًا
محمد جُحا (تصوير هاني زعرب)

يعمل الفنان التشكيلي الفلسطيني الغزّي محمد جُحا، المقيم في باريس، منذ سـنوات طويلة، في مجـال الرسـم مكونًا تجربـة فنيـة متميزة، ما جعل منه، بحسب الفنانة الخزافة الألمانية - الإيطالية كلاوديا دوركنڤالد Claudia Dorkenwald، واحـدًا من أكثر الفنانين الفلسطينيين من أبناء جيله إثارة للاهتمام، إذ يتميز بأسلوب شـخصي متقـن للغايـة في الرسـم والتصويـر، مقدّمًا مزجًا رائعًا مـن العناصر المختلفة في أعماله الفنية، محملًا إياها رسائل غاية في التطـور من خـلال التقنيـات المختلطـة للرسـم، والكولاج، والتركيب، ووسائط أخرى، إلى جانب الأسـلوب الأكثر عفوية وقـدرة تعبيرية.
قام جُحا بطـرح العديد من الأسئلة عبر منجزه البصري، محاولًا استكشاف الكثيـر مـن القضايا الإنسانية، في مقدّمتها قضية الأطفال في وطنه المحتل ومـا يعانونه من ظـروف فقدان البـراءة والحرية.
هنا حوار معه:



يستطيع الفن أن ينجو ويتحقق بالمفهوم العملي وأعني في حالة
الفنان الذي يعمل تحت وطأة الصواريخ والدمار

(*) كيف تعيش عزلتك الاضطرارية مع الألوان في زمن جائحة كورونا؟ وهل تغير شيء أو أشياء في حياتك اليومية منذ دخولك الحجر المنزلي الطوعي؟
ـ حقيقة أشعر ببعض الملل نتيجة لهذه العزلة الطويلة، لأنني ببساطة كائن اجتماعي أتوق لزيارة أصدقائي ومشاركتهم لحظات جميلة، ولكنني أيضًا أُحِب العزلة كوني فنانًا أحتاج لأن أخلو بنفسي مع أعمالي وأفكاري، في الوقت الحالي أعمل بجد وأحضر مُقترحات مشروعي القادم.

 

(*) ماذا تُخبرنا عن هذا المشروع؟
ـ مشروعي القادم سيكون امتدادًا لمشروعي الحالي، والذي أعمل عليه منذ عامين تقريبًا 2018-2020 وهو بعنوان «نسيج الذاكرة - Fabric of Memory».
وأطرح فيه جملة من الأسئلة، منها: كم مرّة من المُفترض علينا بناء غزّة؟ كم مرّة يجب أن نحفظ جغرافيتها الجديدة؟ كم من المناطق الجغرافية الجديدة سترتدي غزّة؟
لا أحد يعرفُ الإجابة على هذه الأسئلة، ولعلهُ ليس ضروريًا، فهذه الأسئلة لها الكثير من الإجابات المُحتملة، كما بِدورها تطرح أسئلة أخرى حول ما يحدثُ في غزّة. "التجديد" المفروض والمكروه هو حكاية لا نهاية لها في حال الحروب المستدامة ويؤثر على كل شيء على حد سواء: البشر والمخلوقات وأشياء أخرى.
في كل عامين تضطر غزّة إلى خلع ردائها لترتدي ثوبًا معماريًا جديدًا، وبين ثوب وآخر، وبين التغيير والتكيفُ معهُ، تُنهك غزّة وتُفقر في كل مرّة أكثر، وبدلًا من ذلك تتوق غزّة لأن تغدو مُستقرة ومُستمرة الوجود على الخارطة.
باتت غزّة فضاءً بلا روتين، ففي وقت الحرب يصبح من الصعب علينا أن نُسميها حربًا، كما يصعب العيش مرارًا وتكرارًا مع هذه التحوّلات المُتكررة.
مسار الشارع وأشكال المباني، كل شَيْء أمسى الآن مُختلفًا، هُنَا كان شارعٍ يُحيطُ بحديقةٍ عامة، وكان هُناك فندق بجوار برج شاهق، ومبنى سكني يستضيفُ في طابقهُ الأرضي بقالة، تغير الآن كل شيء! قبل بضع سنوات كان هُناك أيضًا مُستشفى، إدارة حُكومية، مؤسسة، وشارع مفتوح مُتفرع من شارع آخر، لم يبق لأيٍّ منها أثر.



اللغة والثقافة هوية متوارثة
(*) معرضك الأخير «نسيج الذاكرة» الذي شاركت به في "آرت أبو ظبي" في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، ما الذي أردت إيصالهُ للزائر من خلال ما قدّمت فيه من أعمال؟
ـ تمت المشاركة بواسطة الغاليري الذي أعمل معه في دبي وكانت المُشاركة ثُنائية مع صديقي الفنان الغزي حازم حرب الذي يعمل ويعيش بين أوروبا ودبي.
«نسيج الذاكرة» هو مشروع عملت عليه لأكثر من عام، والهدف منه هو نسج صور وحكايات بصرية عن المكان الذي قدّمت منه - قطاع غزّة، والذي أصبح اليوم جزءًا كبيرًا مِنْهُ مجرد ذاكرة سوف تُقص على الأجيال القادمة سواء بالصورة أو بالحديث عن المكان، لذا أردتُ أن أُشَارِك هذه التجربة مع الجمهور العربي.

 

(*) تقول: "المكان هوية". من حيّ الشجاعية في غزّة - المكان الأوّل- انتقالًا إلى إيطاليا ومن ثم باريس، هل كانت للمكان خُصوصية تجعلك تختار مواضيع فنية بعينها؟
ـ بالطبع، كثرة التنقل والترحال في المنافي المتعددة بلورت وأثرت تجرُبتي مع الحياة والفن، كما جعلتني أرى الأمور بشكلٍ أعم وأوضح، عندما أقول: "المكان هوية" فإنّ هويتي الأولى هي وطني الذي قدمتُ منه، والذي ما زلت أحمل همومه وأعبر عن قضاياه في أعمالي الفنية. البيت والشارع واللغة والثقافة هوية متوارثة إما بصرية أو محكية أو مقروءة، كل ما هنالك يعتمد على طبيعة طرح أو نقد الفنان لهذه الهوية.

 

(*) ماذا أعطتك مدينة باريس التي تطلق عليها "عاصمة الأصدقاء" على الصعيد الفني، وماذا أخذت منها بالمُقابل؟
ـ منحتني مدينة باريس الأُلفة والدفء الذي خلق من محبة الأصدقاء، عندما كُنت أعيشُ في إيطاليا رغم محبتي لها وذكرياتي الجميلة فيها إلا أنني لم أكُن أشعُر بهذا التنوع والتواجد الفلسطيني والعربي من فنانين ومُبدعين، والذي بدوره أضاف الكثير على تجرُبتي الفنية وعمّق أصالتها.



باتت غزّة فضاءً بلا روتين، ففي وقت الحرب يصبح من الصعب علينا أن نُسميها حربًا، كما يصعب العيش مرارًا
وتكرارًا مع هذه التحوّلات المُتكررة.

(*) اللجوء، المنفى، الغُربة - مُفردات عايشتها في رحلة العُمر. ما تأثيرات كل هذا على مُنجزك الفني؟
ـ اللجوء تجرُبة عشتها فعليًا في مملكة النرويج بين عامي 2008 - 2010 وشعرتُ لأوّل مرّة في حياتي بأنني ليس الوحيد الذي أعاني من أزمة المنفى والشتات وضياع الوطن، وإنما يشاركني بها العديد من الناس من أعراق وثقافات وجنسيات مختلفة، والذين يتقاطعون معي بسبب سعيهم وتواجدهم كطالبي لجوء، والفارق بيني وبينهم كفلسطيني أنّ عدوي وخالق شتاتي معروف للعالم بأسره. تمكنت من خلال تجربتي في النرويج من إنتاج مشروع مُتعدد الوسائط ما بين الصورة، النحت التركيبي، الرسم التركيبي، والكولاج يقدم رؤية عن فاجعة الغرق سميته «ما وراء الأزرق».

 

(*) في عام 2012 عشت تفاصيل العدوان الإسرائيلي الثاني على غزّة التي شهدت وتشهد حصارًا جائرًا مُنذ 12 سنة، وبين الحين والآخر تكون ضحية لقصف وحشي يشنهُ الطيران الإسرائيلي. سؤالي لك وأنت تشتغل على مُنجز فني يطرح مشهدا بصريا لونيا يهدف إلى تجميل القُبح/ الحرب، هل يستطيع الفن أن ينجو من كل هذا الدمار والموت؟
ـ برأيي يستطيع الفن أن ينجو ويتحقق بالمفهوم العملي وأعني في حالة الفنان الذي يعمل تحت وطأة الصواريخ والدمار، فيتمكن من سرد رؤى متنوّعة وأكثر عُمقًا من مشهد الموت والدمار ذاته بأعمال تتحدث أصلًا عن هذه الفاجعة ولكن من خلال تناول مفاهيم وأدوات متنوّعة وقابلة للتحقيق وللمشاهدة والتفاعل. أما على الصعيد المكاني، فهناك أعمال لفنانين انتهى مشوارها تحت الركام كما حدث في "قرية الفنون والحرف" في قطاع غزّة قبل عامين.

 

الفن سلعة ذات قيمة إنسانية
(*) في أحد معارضك (2019)، استخدمت مادة القماش الملون في أعمالك. لماذا تعاملت مع هذه المادة تحديدًا كمادة خام جديدة وبأيّ تقنيات؟
ـ استخدامي لمادة القماش في معظم أعمال الكولاج يندرج تحت الحاجة، فغزّة المُحاصرة منذ أكثر من 12 سنة حُرم عليها استيراد مواد البناء والإسمنت لإعادة ما دمرهُ الاحتلال على مدى ثلاث حروبٍ طاحنة خلّفت مشهدا مروّعا، استخدم الناس الخيام المحاكة يدويًا من القماش المزركش والملون المتوفر في السوق كبديل للبناء على أطلال بيوتهم المُدمّرة، من هنا أتت فكرة التعامل وتطويع هذه الخامة وذلك كي أقدّم مشهدًا أصدق وأقرب إلى الواقع.

 

(*) لاحقًا طورت مشروعك البصري تقنيًا بالاشتغال على مساحات لونية أكثر. ما الدوافع التي دعتك لذلك، وماذا أضفت إلى مُنجزك البصري باشتغالك هذا؟
ـ العمل على مساحات لونية تميل أكثر إلى التبسيط هو لغرض الاختزال المعقول، وإنه لأمرٍ مُفيد ويخدم ويُنجح العمل أكثر من طرح مشاهد تفصيلية قد تُشكل ثقلًا وعبئًا بصريًا يُرهق العمل المُشاهد.

(*) ألا تخشى أن يتلقى الجمهور أعمالك بعيدًا عن الفكرة التي أردت طرحها في أيّ مُنجز كاعتبار ما يراه مُجرد ديكور مثلًا؟
ـ عادةً ما أكتُب عن مشروعي نصًا يُرافِق الأعمال، وهذا ليس لغرض الكتابة عن العمل والفن فقط، وإنما لمنح المتلقّي فكرة ليتعرف أكثر على طبيعة الأعمال وجغرافيتها، ومن أين أتت ولماذا، وما هي هويتها الفردية والجمعية، وبهذا تصل الفكرة مُقترنة مع الخامة وطريقة الطرح. في النهاية الفن هو رسالة بصرية يستطيع أيّ مُتلقّ من خلالها باختلاف ثقافته أن يرى ما يُرِيد وما يتلاءم مع وعيه.
أما بالنسبة للديكور فهو فنٌ قائم بذاته ومعترف به عالميًا وأرى - من خلال شهادة المتلقّي- أنّ رسالتي وصلت لشرائح متنوّعة من الناس باختلاف ثقافاتهم وقراءتهم.



استخدامي لمادة القماش في معظم أعمال الكولاج يندرج تحت الحاجة، فغزّة المُحاصرة منذ أكثر من 12 سنة حُرم عليها استيراد مواد البناء والإسمنت لإعادة ما دمرهُ
الاحتلال على مدى ثلاث حروبٍ طاحنة خلّفت مشهدا مروّعا



(*) ماذا عن النُقاد، كيف استقبلوا ما تُقدّمه من اقتراحات جديدة على مُستوى المواد الخام والتقنيات؟
ـ ما لفت نظري خلال مُشاركاتي في بعض البلدان العربية أنه أتى إليّ العديد من الزوار باختلاف لغاتهم وثقافاتهم ورؤاهم وعبّروا عن مدى إعجابهم بالعمل، وخامات التنفيذ والطريقة التي طُرح بها المشروع وكأن هُناك إجماع على تقبلهم.
وحدث أن التقيت من بين الزوار مهندسين معماريين ومهندسي تصميم داخلي، أحدهم قال لي حرفيًا بأنه رأى لأوّل مرّة في حياته هذا الزخم المعماري المُتكامل رغم غياب المنظور.

 

(*) أخيرًا، ما هو تقييمك لسوق الفن التشكيلي في الوطن العربي، وهل تسمح هذه السوق للفن مُستقبلًا بأن يتحوّل إلى صناعة، فيها جانب جمالي وتجاري مُتوازن؟
ـ سوق الفن في المنطقة العربية جيدة مُقارنة بالسوق الأوروبية، هذا ما سُجل على مدى أعوام مُتتالية، ولكن هذا كان سابقًا، أي قبل أزمة كورونا وتأثيرها على مُجمل مناحي الحياة، وبدوره سيُصبِح الفن جزءًا لا يتجزأ من هذه المُعضلة العالمية، وآمل أن يكون الضرر على تجارة الفن قليلًا.
أما فيما يتعلق بتوازن جمالية وتجارية الفن معًا، فالفن هو سلعة ذات قيمة إنسانية ومحتوى عال، وثق وأرخ مُجمل أحداث وتقلبات النفس البشرية على مرّ الأزمات والأزمنة، ولا ضرر لو أعطى لنفسه هذه المكانة والقيمة في أن يكون ذا استخدام جمالي أو تجاري.

 

*****

ولد الفنان التشكيلي الفلسطيني محمد جُحا في مدينة غزّة عام 1978. وهو يُقيم ويعمل حاليًا بين باريس وإيطاليا. حاصل على درجة البكالوريوس من قسم التربيـة الفنيـة من جامعـة الأقصـى - غزّة عـام 2003، والتحق في نفـس العـام بالأكاديمية الصيفية للفنون بـ"دارة الفنـون - مؤسسة خالـد شـومان"، عمّـان - الأردن، بإشراف الرسام والنحات السوري الراحل مـروان قصـاب باشـي.
فاز جُحا في عام 2004 بجائزة "الفنان الشاب" (جائزة حسـن الحوراني) بترشيح من مؤسسة عبـد المحسـن القطـان. تم ترشيحهُ فنـان العام 2004، مُنح إثرها إقامة فنية للأعوام 2005 - 2008 ثُم 2017/2018 في "المدينة الدولية للفنون" في باريس، حيـث عمـل علـى تطويـر تجربته الفنيـة، إلى جانـب اختياره لإقامـة ورشات عمل عديدة في أوروبا، بالإضافة إلى مُشاركته في معـارض فردية وجماعية في الوطن العربي وأوروبا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.